قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
يقول الله عز وجل: ((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ)) أي: ملك مصر وما حولها من بلاد، وعلا علواً شديداً وعتا في الأرض، فالله عز وجل يرفع من يشاء ويضع من يشاء، فرفعه الله ملكاً فإذا به يزعم أنه الملك على البلاد وأن هذا حقه، ولكن ما أعجبه أن يقف عند هذا الحد، وإنما ادعى ما هو أكثر من ذلك، ادعى أنه إله، وفي دعواه الكذب الواضح.
ثم ختم هذه الآية بقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، فبين أن فساده كان فساداً عظيماً جداً، وهذا واضح مما يذكره الله عز وجل في هذه الآية.
وفرعون علا في الأرض، فالله يعلي من يشاء، ويرفع درجات من يشاء، يرفع بالعلم من يشاء سبحانه وتعالى، يكون الناس بعضهم في علو وبعضهم في سفل، بحسب ما أعطاهم الله عز وجل من فضله، هذا غني وهذا فقير، هذا قوي وهذا ضعيف، هذا عالم وهذا جاهل، هذا ذكي وهذا غبي، فيرفع الله عز وجل ويفضل الناس بما يشاء، ولكن من أعطاه الله نعمة فتعالى بها على القوم حتى زعم ما ليس له فهذا العلو والإفساد، ففرعون آتاه الله الملك فإذا به يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ويزعم لقومه أنه ابن الشمس، وليس مثل واحد منهم، كما كان يزعم الفراعنة، وقالوا: هذا كان رمسيس الثاني أو ابنه منفتاح والكثير يرجحون في زماننا أنه ابنه منفتاح بن رمسيس الثاني.
المهم أن هذا الفرعون أعطاه الله ملكاً عظيماً فعلا في الأرض أول شيء بكفره بالله سبحانه، وبدعواه أنه شيء آخر أعلى من البشر، وأن هؤلاء عبيد عنده يعبدونه من دون الله سبحانه، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]، الذي يجعل الناس شيعاً هذا لا يصلح أن يكون حاكماً عليهم، الحاكم على الناس هو الذي يجمع الناس جميعهم.
النبي صلى الله عليه وسلم من منة الله عز وجل عليه أن جعله بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، يبقى الحاكم الرءوف الرحيم هو الذي يجمع الناس حوله، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم للحاكم الرفيق بشعبه، فقال يدعو ربه سبحانه: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)، إذاً: الحاكم الذي يتولى من أمر المسلمين شيئاً ويكون رفيقاً بالناس دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفق الله به في الدنيا والآخرة، ومن كان عنيفاً مع الناس شديداً غليظاً دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعامله الله عز وجل بهذا العنف وبهذه الشدة.
فالغرض أن فرعون كان حاكماً قاسياً، يدبر أمر ملكه بالكيد والمكر، قال الله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، فمن إفساده أن: ((جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]، فلأجل أن يحكم البلد جعل الناس فرقاً، فقالوا: قسم البلاد إلى بضع وثلاثين فرقة، الفريق الذي في البلدة الفلانية، والفريق الذي في البلدة الفلانية، وجعل بينهم عداوة وبغضاء، الكل يوالونه هو، ولكن لا يحب بعضهم بعضاً، فجعل القوم شيعاً، فأقل شيعة وأضعف شيعة هم بنو إسرائيل الذين كانوا ساكنين في مصر من قبل أن يأتي هذا الفرعون بأربعمائة عام، يعني: ما كانوا من أهل مصر أصلاً، ولكنهم هم أبناء يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكانوا في فلسطين في بلاد الشام، وبعد ذلك لما كاد إخوة يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام له ألقوه في غيابة الجب، وتمر سيارة فيأخذونه طفلاً من غيابة الجب، ويأتون به إلى مصر، وينشأ ويشب كما ذكر الله سبحانه في سورة يوسف قصته، بعد ذلك أمر إخوته لما عرفوه أن يأتوا بأهلهم إلى مصر، فجاء إلى مصر يعقوب وأبناؤه وعاشوا في هذه البلدة، فمن هذا الوقت عاشوا وتكاثروا وظلوا فترة طويلة، وكان أهل مصر يعرفون لهم حقهم.
وأهل مصر كانوا يلقبون بالأقباط، وكلمة (قبط) ليس أصلها النصارى، فلم يكن يوجد في ذلك الوقت نصارى، ولكن أهل مصر الذين هم من أيام الفراعنة هم القبط، كل من سكن مصر يسمى قبطياً، والذي يحكم مصر يلقب بفرعون، والوزير يلقب هامان، فكان يميز بين القبط وبين بني إسرائيل، فبنو إسرائيل جاءوا إلى مصر ودخلوا فيها، أما الأقباط فهم من أهل مصر.
الغرض أن بني إسرائيل عاشوا وكانوا على التوحيد، ثم بعد ذلك رجعوا إلى الإشراك بالله، فلما فعلوا ذلك سلط الله عليهم فرعون؛ لأنهم كانوا هم أهل الديانة الصحيحة والتوحيد، ولكن لما ابتعدوا عن دين ربهم سبحانه سلط عليهم ربهم فرعون، فعاشوا في هذه البلدة مستذلين، أذلهم فرعون ذلاً شديداً، فهذا كان من فساد فرعون، قال الله سبحانه: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص:4]، جعل أهل مصر جميعهم شيعاً؛ لأن النظام يقول: فرق تسد، فرق الناس من أجل أن يبقى هو الرئيس عليهم.
ثم من فساده أنه يستضعف طائفة من بني إسرائيل، فماذا كان يعمل فيهم؟ {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4].
فرعون هذا الإنسان العنيف ليس في قلبه رحمة، فكان {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أْبْنَاءَهُمْ} [القصص:4]، وسبب ذبحه للصغار أن منجماً من منجميه الذين كانوا ينظرون في النجوم قال له: إنه سيولد طفل من بني إسرائيل يكون هلاكك على يديه، فإذا به يأمر بقتل أبناء بني إسرائيل، فذهب إليه الفلاحون وقالوا: لو قتلت أبناء بني إسرائيل لم نجد من يخدمنا، فإذا به يتراجع ويقول: نقتل الأولاد سنة ونتركهم سنة، وكأنه بناءً على كلام هذا الذي نظر في النجوم فإذا به يقتل أطفال بني إسرائيل في سنة، وفي سنة أخرى يترك أطفال بني إسرائيل، فكان ممن ولد في العام الذي لا يقتل فيه هارون أخو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وفي العام الذي يليه ولد موسى عليه الصلاة والسلام، فأرسل فرعون من يقتله.
فكانت هنا منة من الله عز وجل من ساعة ما ولد موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والله يرينا كيف يحميه سبحانه، وكيف يدبر له أمره وهو صبي صغير، ففرعون يقتل الأبناء قسوة وعنفاً منه، وكفراً بالله سبحانه وتعالى، وكيداً ومكراً وتفريقاً بين الناس.
وكان يستحيي نساء بني إسرائيل، أي يترك البنات تكثر، والعادة أن الإسرائيلية تتزوج من أمثالها، لكن سيقل الصبيان، فماذا ستعمل المرأة عندما تكبر وتكون فيها شهوة؟ تقع في البغاء والزنا، وهذا الذي يريده فرعون، يستحيي النساء من بني إسرائيل بحيث تبقى خادمات في البيوت، وتكون عواهر وزانيات أيضاً، {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
فالله عز وجل بدأ القصة بأن فصل لنا ما الذي يصنعه هذا الفرعون حتى تأتي إلى النهاية فتنظر كيف صنع الله به بكفره بالله سبحانه، وبإفساده في الأرض، فهذا فعل فرعون: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، كان عظيم الفساد في الأرض.
وهؤلاء المستضعفون ماذا سيعمل بهم ربنا؟ قال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، الله عز وجل يطمئن المؤمنين، أنتم مستذلون وضعفاء، وعددكم قليل في مكة، سننصركم يوماً من الأيام، ولن نمكن لكم في مكة فقط، بل في الأرض كلها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.