تفسير قوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى)

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80]، قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، هذا هو الأصل، فالميت انحجب عن الدنيا، فلا يسمع شيئاً من أمورها، إلا ما يشاء الله عز وجل أن يسمعه إياه، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دفنوا ميتاً ثم تولوا عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليسمع قرع نعالهم)، فالميت حين يوضع في قبره، وينصرف عنه الناس، فإن الله عز وجل يسمعه أصوات انصرافهم، وبعد انصرافهم يصير وحيداً في قبره، وينقطع أمره عن الدنيا، فلا يسمع شيئاً، ولا يعرف شيئاً مما يدور فيها.

إذاً: الأصل أن الموتى لا يسمعون، إلا أن يجعل الله عز وجل صوته يصل إليهم، كما حدث في يوم بدر، فقد جاء في حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، -أي: من عتات قريش وكفارهم، كـ أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم من كبار الكفار- كانوا قتلوا في يوم بدر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهم فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث -أي: في بئر من الآبار التي كانت موجودة في ذلك المكان، فلم يحفروا لهم قبوراً ولا غيره، ولكن رموهم في داخل بئر من الآبار- وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، -أي: إذا غلب قوماً وانتصر عليهم أقام بمكان القتال ثلاثة أيام صلوات الله وسلامه عليه- فلما كان ببدر في اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أصحابه -وهم لا يعرفون أين سيذهب صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الركي- أي: جاء على حرف البئر- وجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان! ويا فلان بن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ -أي: أيسركم الآن لو كنتم أطعتم الله ورسوله- فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فتعجب عمر وقال: يا رسول الله! أتكلم أجساداً لا أرواح لها؟! -أي: جثثاً مرمية لا تسمعك- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، بمعنى: أنهم يسمعونني الآن، وإن كانت العادة أنهم لا يسمعون، ولكن الله أسمعهم الآن كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الله عز وجل هنا في هذه الآية: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80].

إذاً: الأصل أن الموتى لا يسمعون شيئاً من كلام أهل الدنيا، ولا مما فيها، إلا ما يشاء الله عز وجل أن يسمعهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كما أسمعهم انصراف الناس عنهم.

يقول الله عز وجل: ((وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ))، الصم: جمع أصم، وهو الذي لا يسمع، فإذا ناديته ولى مدبراً عنك، فكأن هؤلاء المشركين كما قال الله عز وجل فيهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]، وقال: {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].

فالأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا يتكلم، والأعمى الذي لا يرى، من المستحيل أن يحس أو يشعر بمن يناديه، فإذا ذهب فلا يمكن أن يعيده هذا النداء، وقلبه بيد الله عز وجل يقلبه كيف يشاء.

فلذلك أخبر عن هؤلاء الكفار أنهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]، إذا نودوا ليرجعوا لا يرجعون، وهم لا يعقلون، وكيف يعقلون وقد انقطعت عنهم حواسهم، وغاب عنهم شعورهم، يقول الله سبحانه: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل:80]، والكافر أشد من هذا الأصم الأبكم الأعمى، وإذا جاء الأصم الأبكم الأعمى يوم القيامة قال لربه: يا رب! لم أسمع ولم أعلم، وما جاءنا من عندك من نذير، فيرحمه الله سبحانه وتعالى، أما الكافر فلا يرحمه؛ لأنه كان ينظر ويسمع ويعي ويعقل، ومع ذلك أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كالأعمى والأصم، فالله عز وجل يقول: ((إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى))، هؤلاء، ((وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ))، أي: لا تسمعهم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (ولا يسمع الصم الدعاء) أي: أن الإنسان الأصم لا يسمع دعاءك إذا ناديته، وهذا الكافر كهذا الأصم الذي لا يسمع، فلا تسمعه دعاءك إلا أن يشاء الله، وقوله تعالى: ((إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ))، أي: أعرضوا عنك، ولم يريدوا أن يسمعوا لك، وكانوا إذا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم استغشوا ثيابهم؛ كي لا يرونه، فكان الواحد منهم يضع أصبعه في أذنه ويغطي عينيه حتى لا يسمع كلامه صلى الله عليه وسلم ولا يراه، وهذا الذي فعله الكفار مع نوح، فقد شكا نوح لربه سبحانه أنه كلما دعاهم إلى الله عز وجل {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7]، وهذا حال الكفار والمنافقين أيضاً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر وهو راكب على حمار بـ عبد الله بن أبي بن سلول فإذا بالرجل يستغشي بثوبه على وجهه ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم -وقد جاء مسلماً يدعوهم إلى الله- يا أيها الرجل! ما أحسن ما تقول إن كان ما تقول حقاً، ارجع إلى بيتك فمن أتاك منا فأخبره، أي: لا تكلمنا، واذهب إلى بيتك، والذي يأتي إليك يريد أن يسمع فكلمه.

فهذا رده على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أصم أعمى القلب، لا يفهم ولا يعقل، وظل على هذا العمى حتى أخذه الله عز وجل وهو على ذلك، وقد أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم إساءات عظيمة، فكفر في قلبه وإن خالف بعد ذلك وأظهر الإسلام بلسانه، لكن قلبه ممتلئ بالغل والحقد على الإسلام دين رب العالمين.

فالمقصود أن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تقدر أن تسمع من أصمه الله سبحانه، وأذهب عقله، فلا يفهم ولا يعي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015