تتميز هذه السورة المكية بخصائص السور المكية، وذكرنا قبل ذلك أن من خصائص السور المكية: الاهتمام بأمر التربية، وأمر العقيدة، وأمر التوحيد، وإقرار هذا الأمر.
فتجد هذه السور المكية تعنى بأمر العقيدة، والإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، وذكر صفات الله سبحانه، وأسمائه الحسنى، وكذلك ذكر قصص الأنبياء، وما ابتلاهم الله عز وجل به، ثم نصر الله عز وجل لهؤلاء الأنبياء.
وفي هذه السورة العظيمة يبين الله سبحانه وتعالى لنا كيف أنه قد يعطي لبعض عباده الرسالة، وقد يعطي البعض الآخر الرسالة والملك، كما أعطى داود وأعطى سليمان، وسنرى في هذه السورة شأن الاثنين.
وفي هذه السورة: ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام بشيء من التفصيل، وقد تقدمت هذه القصة مراراً، فقد كان موسى عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة قبل نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك أكد الله عز وجل ذكر أمره في هذا القرآن العظيم مرات ومرات؛ حتى يأتسي النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي به.
ولذلك كان هو النبي الوحيد الذي نصح النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج أن يرجع إلى ربه، وقال: إني بليت بني إسرائيل قبلك، وإن أمتك ضعيفة لا تطيق، فهو صاحب تجربة عليه الصلاة والسلام، فأشار للنبي صلى الله عليه وسلم بمحصلة هذه التجربة، فكانت النتيجة أن وضعت الصلوات من خمسين صلاة في اليوم والليلة إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.
وقد ابتدأ ربنا سبحانه سورة النمل بالحرفين المقطعين: الطاء والسين، وقد قلنا: إن هذه السورة ثلاث وتسعون آية على العد الكوفي، وأربع وتسعون آية على العد البصري، وخمس وتسعون آية على العد الحجازي، فالبعض عد هذه الآية في مكان وقف النبي صلى الله عليه وسلم، والبعض أدخل وقفين على أن هذا وقف جائز وبعده رأس الآية.
إذاً: فالبعض عدهما فاصلة ورأس آية، والبعض لم يعدهما كذلك، فاختلف الترقيم.
قال الله تعالى: {طس} [النمل:1]، حرفان مقطعان في أول هذه السورة، وقد تميزت السور الثلاث من سور الطواسين أو الطواسيم بهذه الحروف: الطاء والسين، وزادت الميم في سورتي الشعراء والقصص.
فالسور: الشعراء، والنمل، والقصص تسمى بسور: الطواسيم أو الطواسين، هذا جمع على غير قياس، وأيضاً يقال: هي ذوات الطاسن، يعني: في أولها طاء وسين، والقراءة فيها: {طس} [النمل:1]، قراءة الجمهور، وأما قراءة أبي جعفر فبالقطع لبيان أنها حروف وليست كلمة.
ولذلك كل الحروف التي في فواتح السور يقرؤها أبو جعفر يزيد بن القعقاع مفرقة، أي: يقطعها، فيقطع في قوله تعالى: {طس} [النمل:1]، حتى يبين أن هذا حرف، وهذا حرف، مثل قوله تعالى: {طه} [طه:1] فهو يبين أن ليست كلمة، ولكن هذا حرف وهذا حرف، أي: حرفان.
وهنا بدأ الله عز وجل بهذين الحرفين، وقراءة الجمهور: مد الطاء حركتين، ومد السين مداً طويلاً، والطاء في قراءة شعبة عن عاصم، وقراءة حمزة، والكسائي، وخلف ممالة، يعني: أن غيرهم يقرأ الطاء مفتوحة، أما شعبة عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف فيميلونها، إذاً: القراءة إما بالفتح، وإما بالإمالة فيها، وأما السين فالكل يقرؤها ممدودة مداً طويلاً.
قال الله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، وستجد دائماً في القرآن أ، الله عندما يبدأ السورة بحروف مقطعة فلا بد أن يشير إلى القرآن بعدها، كقوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]، وقوله تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:1 - 3]، وقوله تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء:1 - 2]، وقوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، وقوله تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:1 - 2].
فالله سبحانه وتعالى عندما يذكر الحروف المقطعة فإنه يذكر بعدها مباشرة الإشارة إلى هذا القرآن، وكأنه يقول لنا: إن هذا القرآن من هذه الحروف نفسها، أي: من الحروف التي تتكلمون بها، وتصنعون منها خطبكم ونثركم وشعركم، ويتحداكم الله عز وجل أن تأتوا بمثل هذا القرآن لو استطعتم إلى ذلك سبيلاً.
فالمقصود بها هنا: التحدي، والكثرة، أي: هاتوا مثل هذا القرآن الذي جاءكم من مثل هذه الحروف، والذي يعد حروف هذه السورة يجد أن أكثر الحروف التي تكررت في هذه السورة حرف الطاء وحرف السين، وكذلك كل سورة يبدؤها الله عز وجل بأحرف مقطعة، فإن المتأمل إذا عد الحروف التي في السورة يجد أكثر حروف السورة تكراراً هي هذه الحروف المقطعة في أوائل السور.
إذاً: فالله يبين أن هذا القرآن من لغتكم العربية، ومن حروفكم التي تتكلمون بها، فاتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، أو فأتوا بسورة من أقصر السور مثل هذا الذي جئناكم به ولن تستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، فقوله تعالى: {طس} [النمل:1]، حرفان في أولها، والبعض يسمي هذه السورة: بطس، فهذان الحرفان دلالة على تسميتها، مثل أن تقول: صلينا يوم الجمعة بألم السجدة، يعني: السورة التي فيها ألم وفيها السجدة، فقيل: هذه الحروف دلالة على تسمية السورة، وقيل: إن هذه الحروف من الأقسام التي يقسم الله عز وجل بها، وقيل: بل هي حروف من أسماء الله سبحانه وتعالى افتتح بها هذه السور والله أعلم.
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، واسم الإشارة القريب للمؤنث: هذه، وإذا كان للبعيد في المكان أو في الرتبة قال: تلك، ففيها إشارة للبعد في الرتبة، يعني: أنه عالٍ وعظيم، فالله يشير إلى القرآن العظيم، فلم يقل: هذه آيات القرآن، أو كان هذا القرآن قريباً منا، ولكن لما يشير بقوله: (تِلْكَ)، فإن الإشارة للبعيد معناها التعظيم؛ يعني: هذه الآيات العظيمة هي آيات كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، وقد تكرر هذا الجزء في سورة الحجر، لكن بخلاف بسيط، ففي سورة الحجر قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1]، وهنا قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1].
إذاً: فهذه الآيات التي تتلى علينا هي آيات الذكر الحكيم، وآيات القرآن الكريم، قال تعالى: {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، أي: من عند رب العالمين سبحانه، وكأنه يقول: القرآن هو الكتاب المبين، ومبين بمعنى: واضح لا خفاء فيه، ولا إشكال فيه، بل يفهمه كل من يقرؤه، ويعي ما يقصده ربنا سبحانه وتعالى في هذا القرآن، وقراءة الجمهور: {الْقُرْآنِ} [النمل:1]، وقراءة ابن كثير المكي: (الْقُرْانِ) فيحذف الهمزة ويقرؤها ألفاً، وهي قراءة حمزة إذا وقف عليها: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْانِ} [النمل:1]، فإذا وصل قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1].