وَقَوْلُهُ: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِإِجْرَامِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَعُوقِبُوا بِنَقِيضِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ. وَلَمَّا دُعُوا إِلَى السُّجُودِ فِي الدُّنْيَا فَامْتَنَعُوا مِنْهُ مَعَ صِحَّتِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ كَذَلِكَ عُوقِبُوا بِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، إِذَا تَجَلَّى الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسْجُدُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ الْكَافِرِينَ وَلَا الْمُنَافِقِينَ أَنْ يسجُد، بَلْ يَعُودُ ظَهْرُ أَحَدِهِمْ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَسْجُدَ خَرّ لِقَفَاهُ، عَكْسَ السُّجُودِ، كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، أَيْ: دَعْنِي وَإِيَّاهُ مِنِّي وَمِنْهُ، أَنَا أَعْلَمُ بِهِ كَيْفَ أَسْتَدْرِجُهُ، وَأَمُدُّهُ فِي غَيِّهِ وَأَنْظُرُ (?) ثُمَّ آخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ كَرَامَةٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِهَانَةٌ، كَمَا قَالَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 55، 56] ، وَقَالَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] . ولهذا قال هاهنا: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أَيْ: وَأُؤَخِّرُهُمْ وَأُنْظِرُهُمْ وَأَمُدُّهُمْ (?) وَذَلِكَ مِنْ كَيْدِي وَمَكْرِي بِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أَيْ: عَظِيمٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَكَذَّبَ رُسُلِي، وَاجْتَرَأَ عَلَى مَعْصِيَتِي.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ليُمْلي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْه". ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هُودٍ: 102] (?) .
وَقَوْلُهُ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي سُورَةِ "الطُّورِ" (?) (?) وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: أَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ تَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِلَا أَجْرٍ تَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، بَلْ تَرْجُو ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ يُكَذِّبُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، بِمُجَرَّدِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) }