{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ (56) } .
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ وَكُفْرِهِ وَعِنَادِهِ: أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمَهُ، فَنَادَى فِيهِمْ مُتَبَجِّحًا مُفْتَخِرًا بِمُلْكِ مِصْرَ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} ، قَالَ قَتَادَةُ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ جِنَانٌ وَأَنْهَارُ مَاءٍ، {أَفَلا تُبْصِرُونَ} ؟ أَيْ: أَفَلَا تَرَوْنَ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْعَظْمَةِ وَالْمُلْكِ، يَعْنِي: وَمُوسَى وَأَتْبَاعُهُ (?) فُقَرَاءُ ضُعَفَاءُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَحَشَرَ فَنَادَى. فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى} [النَّازِعَاتِ: 23 -25] .
وَقَوْلُهُ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَقُولُ: بَلْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ. وَهَكَذَا قَالَ بَعْضُ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ: إِنَّ "أَمْ" هَاهُنَا بِمَعْنَى "بَلْ". وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَهَا: "أَمَا أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ". قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَكَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا وَاضِحًا، وَلَكِنَّهَا خِلَافُ قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُمْ قرؤوا: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} ؟ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ.
قُلْتُ: وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِنَّمَا يَعْنِي فِرْعَوْنُ -عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ (?) -أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ كَذَبَ فِي قَوْلِهِ هَذَا كَذِبًا بَيِّنًا وَاضِحًا، فَعَلَيْهِ لِعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {مَهِينٌ} كَمَا قَالَ سُفْيَانُ: حَقِيرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ والسدي: يعني: ضعيف. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي: لَا مُلْكَ لَهُ وَلَا سُلْطَانَ وَلَا مَالَ.
{وَلا يَكَادُ يُبِينُ} يَعْنِي: لَا يَكَادُ يُفْصِحُ عَنْ كَلَامِهِ (?) ، فَهُوَ عَيِيٌّ حَصِرٌ. (?)
قَالَ السُّدِّيُّ: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} أَيْ: لَا يَكَادُ يُفْهِمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي عَيِيَّ اللِّسَانِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي فِي لِسَانِهِ شَيْءٌ مِنَ الْجَمْرَةِ حِينَ (?) وَضَعَهَا فِي فِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِرْعَوْنُ -لَعَنَهُ اللَّهُ-كَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِعَيْنٍ كَافِرَةٍ شَقِيَّةٍ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى (?) ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْجَلَالَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْبَهَاءِ فِي صُورَةٍ يُبْهِرُ (?) أَبْصَارَ ذَوِي [الْأَبْصَارِ وَ] (?) الْأَلْبَابِ. وَقَوْلُهُ: {مَهِينٌ} كَذِبٌ، بَلْ هُوَ الْمَهِينُ الْحَقِيرُ خِلْقةً وَخُلُقًا وَدِينًا. وَمُوسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (?) هُوَ الشَّرِيفُ الرَّئِيسُ الصَّادِقُ الْبَارُّ