49

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} أَيْ: إِذَا أَصَابَهُ رَخَاءٌ وَنِعْمَةٌ فَرِحَ بِذَلِكَ، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ} يَعْنِي النَّاسَ {سَيِّئَةٌ} أَيْ: جَدْبٌ وَنِقْمَةٌ وَبَلَاءٌ وَشِدَّةٌ، {فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ} أَيْ: يَجْحَدُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعْمَةِ (?) وَلَا يَعْرِفُ إِلَّا السَّاعَةَ الرَّاهِنَةَ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ أَشِرَ وَبَطِرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مِحْنَةٌ يَئِسَ وَقَنِطَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [لِلنِّسَاءِ] (?) يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ" فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: ولِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِأَنَّكُنَّ تُكثرن الشِّكَايَةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ تَرَكْتَ يَوْمًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ" (?) وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ (?) إِلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فَالْمُؤْمِنُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ" (?) .

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) }

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَالِكُهُمَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} أَيْ: يَرْزُقُهُ الْبَنَاتِ فَقَطْ -قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَمِنْهُمْ لُوطٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} أَيْ: يَرْزُقُهُ الْبَنِينَ فَقَطْ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ -لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى،. {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} أَيْ: وَيُعْطِي مَنْ يَشَاءُ مِنَ النَّاسِ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَيْ: مِنْ هَذَا وَهَذَا (?) . قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} أَيْ: لَا يُولَدُ لَهُ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَيَحْيَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَجَعَلَ النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، مِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ مِنَ النَّوْعَيْنِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ هَذَا وَهَذَا، فَيَجَعَلُهُ عَقِيمًا لَا نَسْلَ لَهُ وَلَا يُولَدُ لَهُ، {إِنَّهُ عَلِيمٌ} أَيْ: بِمَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، {قَدِيرٌ} أَيْ: عَلَى مَنْ يَشَاءُ، مِنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ.

وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ عِيسَى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مَرْيَمَ: 21] أَيْ: دَلَالَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، حَيْثُ خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، فَآدَمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَحَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، [مَخْلُوقَةٌ] (?) مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَسَائِرُ الْخَلْقِ سِوَى عِيسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] (?) مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ فَتَمَّتِ الدَّلَالَةُ بِخَلْقِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} ، فَهَذَا الْمَقَامُ فِي الْآبَاءِ، وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي الْأَبْنَاءِ، وَكُلٌّ منهما أربعة أقسام، فسبحان العليم القدير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015