وَالْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فِي أَمْكِنَةٍ كَثِيرَةٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مَثَانِيَ} قَالَ: الْقُرْآنُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ويُرَدُّ (?) بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وُيرْوى عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} أَنَّ سِيَاقَاتِ الْقُرْآنِ تَارَةً تكونُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، فَهَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ، وَتَارَةً تكونُ بِذِكْرِ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، كَذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ الْكَافِرِينَ، وَكَصِفَةِ الْجَنَّةِ ثُمَّ صِفَةِ النَّارِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا، فَهَذَا مِنَ الْمَثَانِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الِانْفِطَارِ:14، 13] ، وَكَقَوْلِهِ {كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [الْمُطَفِّفِينَ:7] ، إِلَى أَنْ قَالَ: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [الْمُطَفِّفِينَ:18] ، {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:49] ، إِلَى أَنْ قَالَ: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص:55] ، وَنَحْوِ هَذَا مِنَ السِّيَاقَاتِ فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ (?) الْمَثَانِي، أَيْ: فِي مَعْنَيَيْنِ اثْنَيْنِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ السِّيَاقُ كُلُّهُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَهُوَ الْمُتَشَابِهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ:7] ، ذَاكَ مَعْنًى آخَرُ.
وَقَوْلُهُ: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الْجَبَّارِ، الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لِمَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُهُمْ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} لِمَا يَرْجُونَ ويُؤمِّلون مِنْ رَحْمَتِهِ (?) وَلُطْفِهِ، فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ (?) مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ سَمَاعَ هَؤُلَاءِ هُوَ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ، وَسَمَاعُ أُولَئِكَ نَغَمات لِأَبْيَاتٍ، مِنْ أَصْوَاتِ القَيْنات.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيَّا، بِأَدَبٍ وَخَشْيَةٍ، وَرَجَاءٍ وَمَحَبَّةٍ، وَفَهْمٍ وَعِلْمٍ، كَمَا قَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الْأَنْفَالِ:2-4] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الْفُرْقَانِ:73] أَيْ: لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ سَمَاعِهَا مُتَشَاغِلِينَ لَاهِينَ عَنْهَا، بَلْ مُصْغِينَ إِلَيْهَا، فَاهِمِينَ بَصِيرِينَ بِمَعَانِيهَا؛ فَلِهَذَا إِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِهَا، وَيَسْجُدُونَ عِنْدَهَا عَنْ بَصِيرَةٍ لَا عَنْ جَهْلٍ وَمُتَابَعَةٍ لِغَيْرِهِمْ [أَيْ يَرَوْنَ غَيْرَهُمْ قَدْ سَجَدَ فَيَسْجُدُونَ تَبَعًا لَهُ] . (?) .
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ الْأَدَبَ عِنْدَ سَمَاعِهَا، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ مَعَ قُلُوبِهِمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. لَمْ يَكُونُوا يتصارخُون وَلَا يَتَكَلَّفُونَ مَا لَيْسَ فِيهِمْ، بَلْ عِنْدَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ وَالسُّكُونِ وَالْأَدَبِ وَالْخَشْيَةِ مَا لَا يَلْحَقُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا فَازُوا بالقِدح المُعَلّى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَر قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}