وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} أَيْ: وَخَلَقَ الْجِبَالَ كَذَلِكَ مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهِدُ أَيْضًا مِنْ بِيضٍ وَحُمْرٍ، وَفِي بَعْضِهَا طَرَائِقُ -وَهِيَ: الجُدَد، جَمْعُ جُدّة-مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الجُدَد: الطَّرَائِقُ. وَكَذَا قَالَ أَبُو مَالِكٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. (?)
وَمِنْهَا {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} ، قَالَ عِكْرِمَةُ: الْغَرَابِيبُ: الْجِبَالُ الطِّوَالُ السُّودُ. وَكَذَا قَالَ أَبُو مَالِكٍ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْعَرَبُ إِذَا وَصَفُوا الْأَسْوَدَ بِكَثْرَةِ السَّوَادِ، قَالُوا: أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أَيْ: سُودٌ غَرَابِيبُ. وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أَيْ: [وَ] (?) كَذَلِكَ الْحَيَوَانَاتُ مِنَ الْأَنَاسِيِّ وَالدَّوَابِّ -وَهُوَ: كُلُّ مَا دَبَّ عَلَى قَوَائِمَ-وَالْأَنْعَامِ، مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِ. كَذَلِكَ هِيَ مُخْتَلِفَةٌ أَيْضًا، فَالنَّاسُ مِنْهُمْ بَرْبَرٌ وحُبُوش وطُمَاطم فِي غَايَةِ السَّوَادِ، وَصَقَالِبَةٌ وَرُومٌ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ، وَالْعَرَبُ بَيْنَ ذَلِكَ، وَالْهُنُودُ دُونَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الرُّومِ: 22] . وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ، حَتَّى فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، بَلِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنْهُنَّ مُخْتَلِفُ الْأَلْوَانِ، بَلِ الْحَيَوَانُ الْوَاحِدُ يَكُونُ أَبْلَقَ، فِيهِ مِنْ هَذَا اللَّوْنِ وَهَذَا اللَّوْنِ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.
وَقَدْ قَالَ (?) الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيَصْبُغُ رَبُّكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ صَبْغًا لَا يُنفَض، أَحْمَرَ وَأَصْفَرَ وَأَبْيَضَ". (?) ورُوي مُرْسَلًا وَمَوْقُوفًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} أَيْ: إِنَّمَا يَخْشَاهُ حَقَّ خَشْيَتِهِ الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ لِلْعَظِيمِ الْقَدِيرِ الْعَلِيمِ الْمَوْصُوفِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الْمَنْعُوتِ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى -كُلَّمَا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ بِهِ أَتَمُّ وَالْعِلْمُ بِهِ أَكْمَلَ، كَانَتِ الْخَشْيَةُ لَهُ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} قَالَ: الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَة، عَنِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (?) قَالَ: الْعَالِمُ بِالرَّحْمَنِ (?) مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، وَحَفِظَ وَصِيَّتَهُ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ ومحاسب بعمله.