مِنْهُمْ دَائِمًا، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} كَقَوْلِهِ {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ (?) إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الْإِسْرَاءِ::67] . وَقَالَ هَاهُنَا: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ: أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ذَهَبَ فَارًّا مِنْهَا، فَلَمَّا رَكِبَ فِي الْبَحْرِ لِيَذْهَبَ إِلَى الْحَبَشَةِ، اضْطَرَبَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَقَالَ أَهْلُهَا: يَا قَوْمِ، أَخْلِصُوا لِرَبِّكُمُ الدُّعَاءَ، فَإِنَّهُ لَا يُنْجِي هَاهُنَا إِلَّا هُوَ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَا يُنْجِي فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ لَا يُنَجّي غَيْرُهُ فِي الْبَرِّ أَيْضًا، اللَّهُمَّ لَكَ عليَّ عَهْدٌ لَئِنْ خرجتُ لَأَذْهَبْنَ فلأضعَنّ يَدِي فِي يَدِ مُحَمَّدٍ فلأجدنه رؤوفًا رَحِيمًا، وَكَانَ (?) كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} : هَذِهِ اللَّامُ يُسَمِّيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ لَامَ الْعَاقِبَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَتَقْيِيضِهِ إِيَّاهُمْ لِذَلِكَ فَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَقَدْ قدَّمْنا تَقْرِيرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [الْقَصَصِ: 8] .
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) }
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى قُرَيْشٍ فِيمَا أَحَلَّهُمْ مِنْ حَرَمِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، فَهُمْ فِي أَمْنٍ عَظِيمٍ، وَالْأَعْرَابُ حَوْلَهُ يَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قُرَيْشٍ: 1-4] .
وَقَوْلُهُ: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} أَيْ: أَفَكَانَ شُكْرُهُمْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَنْ أَشْرَكُوا بِهِ، وَعَبَدُوا مَعَهُ [غَيْرَهُ مِنَ] (?) الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، وَ {بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إِبْرَاهِيمَ: 28] ، وَكَفَرُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ وَعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهِمْ إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَأَلَّا يُشْرِكُوا بِهِ، وَتَصْدِيقَ الرَّسُولِ وَتَعْظِيمَهُ وَتَوْقِيرَهُ، فَكَذَّبُوهُ وَقَاتَلُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ ظَهْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا سَلَبَهُمُ اللَّهُ مَا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ، وَصَارَتِ الدَّوْلَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ، وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ وَأَذَلَّ رِقَابَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} أي: لا أحد أشد