{وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ هَلْكَى. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَيْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى حِينَ أَسْلَمَ:
يَا رَسُولَ المَليك إِنَّ لسَاني ... رَاتقٌ مَا فَتَقْتُ إذْ أَنَا بُورُ ...
إذْ أُجَارِي الشَّيطَانَ فِي سَنَن الغيْ ... يِ، وَمَن مالَ مَيْلَه مَثْبُورُ ...
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أَيْ: فَقَدْ كَذَّبَكُمُ الَّذِينَ عَبَدْتُم فِيمَا زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ لَكُمْ أَوْلِيَاءُ، وَأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمُوهُمْ قُرْبَانًا يُقَرِّبُونَكُمْ (?) إِلَيْهِ زُلْفَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5 -6] .
وقوله: {فَمَا (?) تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى صَرْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ وَلَا الِانْتِصَارِ لِأَنْفُسِهِمْ، {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ} أَيْ: يُشْرِكْ بِاللَّهِ، {نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} .
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَمِيعِ مَنْ بَعَثَهُ مِنَ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى التَّغَذِّي بِهِ {وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ} أَيْ: لِلتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَافٍ لِحَالِهِمْ وَمَنْصِبِهِمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُمْ مِنَ السِّمَاتِ الْحَسَنَةِ، وَالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَالْأَقْوَالِ الْفَاضِلَةِ، وَالْأَعْمَالِ الْكَامِلَةِ، وَالْخَوَارِقِ الْبَاهِرَةِ، وَالْأَدِلَّةِ [الْقَاهِرَةِ] (?) ، مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ كُلُّ ذِي لُبٍّ سَلِيمٍ، وَبَصِيرَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ، عَلَى صِدْقِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يُوسُفَ: 109] {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الْأَنْبِيَاءَ: 8] .
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أَيْ: اخْتَبَرْنَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، وَبَلَوْنَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، لِنَعْلَمَ مَن يُطيع مِمَّنْ يَعْصِي؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أَيْ: بِمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الْأَنْعَامِ: 124] ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ لِمَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَجْعَلَ الدُّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا يُخَالَفُونَ، لَفَعَلْتُ، وَلَكِنِّي قد أردتُ أن أبتلي العباد بهم،