ثُمَّ أَذِنَ لَهَا تَعَالَى إِذْنًا قَدَرِيًّا تَسْخِيرِيًّا أَنْ تَأْكُلَ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، وَأَنْ تَسْلُكَ الطُّرُقَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا مُذَلَّلَةً، أَيْ: سَهْلَةً عَلَيْهَا حَيْثُ شَاءَتْ فِي هَذَا الْجَوِّ الْعَظِيمِ وَالْبَرَارِي الشَّاسِعَةِ، وَالْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ، ثُمَّ تَعُودُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى مَوْضِعِهَا وَبَيْتِهَا، لَا تَحِيدُ عَنْهُ يُمْنَةً وَلَا يُسْرَةً، بَلْ إِلَى بَيْتِهَا وَمَا لَهَا فِيهِ مِنْ فِرَاخٍ وَعَسَلٍ، فَتَبْنِي الشَّمْعَ مِنْ أَجْنِحَتِهَا، وَتَقِيءُ الْعَسَلَ مِنْ فِيهَا (?) وَتَبِيضُ الْفِرَاخَ مِنْ دُبُرِهَا، ثُمَّ تُصْبِحُ إِلَى مَرَاعِيهَا.

وَقَالَ قَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا} أَيْ: مُطِيعَةً. فَجَعَلَاهُ حَالًا مِنَ السَّالِكَةِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَهُوَ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72] قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ النَّحْلَ (?) مِنْ بُيُوتِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَهُوَ يَصْحَبُهُمْ.

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الطَّرِيقِ، أَيْ: فَاسْلُكِيهَا مذلَّلةً لَكِ، نَصَّ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ (?) .

وَقَدْ قَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخ، حَدَّثَنَا سُكَيْن (?) بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عُمْرُ الذُّبَابِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَالذُّبَابُ كُلُّهُ فِي النَّارِ إِلَّا النَّحْلَ" (?) .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أَيْ: مَا بَيْنَ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ وَأَحْمَرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْوَانِ الْحَسَنَةِ، عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاعِيهَا وَمَأْكَلِهَا مِنْهَا (?) .

وَقَوْلُهُ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أَيْ: فِي الْعَسَلِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ مِنْ أَدْوَاءٍ تَعْرِضُ لَهُمْ. قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الطِّبِّ النَّبَوِيِّ: لَوْ قَالَ فِيهِ: "الشِّفَاءُ لِلنَّاسِ" لَكَانَ دَوَاءً لِكُلِّ دَاءٍ، وَلَكِنْ قَالَ {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أَيْ: يَصْلُحُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَدْوَاءٍ بَارِدَةٍ، فَإِنَّهُ حَارٌّ، وَالشَّيْءُ يُدَاوَى بِضِدِّهِ.

وَقَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْر (?) فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ.

وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الظَّاهِرُ هَاهُنَا مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا ذَكَرَ فِيهَا الْعَسَلَ، وَلَمْ يُتَابَعْ مُجَاهِدٌ عَلَى قَوْلِهِ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا الَّذِي قَالَهُ ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ [الْإِسْرَاءِ: 82] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يُونُسَ: 57] .

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} هُوَ الْعَسَلُ -الحديثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا (?) مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَلِيِّ بْنِ دَاوُدَ النَّاجِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي استَطْلَق بطنُه. فَقَالَ: "اسْقِهِ عَسَلًا". فَسَقَاهُ عَسَلًا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَمَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا! قَالَ: "اذْهَبْ فَاسْقِهِ عَسَلًا". فَذَهَبَ فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا زَادَهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا! فقال رسول

طور بواسطة نورين ميديا © 2015