لَمَّا (?) ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ نِعَمْتِهِ عَلَيْهِمْ، فِي إِنْزَالِ (?) الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ -وَهُوَ الْعُلُوُّ -مِمَّا لَهُمْ فِيهِ بُلْغَة وَمَتَاعٌ لَهُمْ وَلِأَنْعَامِهِمْ، فَقَالَ: {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} أَيْ: جَعَلَهُ عَذْبًا زُلَالًا يَسُوغُ لَكُمْ شَرَابُهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِلْحًا أُجَاجًا.
{وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} أَيْ: وَأَخْرَجَ لَكُمْ بِهِ شَجَرًا تَرْعَوْنَ فِيهِ أَنْعَامَكُمْ. كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ تُسِيمُونَ} أَيْ: تَرْعَوْنَ.
وَمِنْهُ الْإِبِلُ السَّائِمَةُ، وَالسَّوْمُ: الرَّعْيُ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ السَّوْمِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ (?) .
وَقَوْلُهُ: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أَيْ: يُخْرِجُهَا مِنَ الْأَرْضِ بِهَذَا الْمَاءِ الْوَاحِدِ، عَلَى اخْتِلَافِ صُنُوفِهَا وَطَعُومِهَا وَأَلْوَانِهَا وَرَوَائِحِهَا وَأَشْكَالِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أَيْ: دَلَالَةً وَحُجَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا قَالَ تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النَّمْلِ: 60]
ثُمَّ قَالَ (?) تَعَالَى:
{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) } يُنَبِّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى آيَاتِهِ الْعِظَامُ، وَمِنَنِهِ الْجِسَامِ، فِي تَسْخِيرِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَدُورَانِ، وَالنُّجُومَ الثَّوَابِتَ وَالسَّيَّارَاتِ، فِي أَرْجَاءِ السَّمَوَاتِ نُورًا وَضِيَاءً لِمُهْتَدِينَ بِهَا فِي الظُّلُمَاتِ، وَكُلٌّ مِنْهَا يَسِيرُ فِي فَلَكِهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، يَسِيرُ بِحَرَكَةٍ مُقدرة، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا يُنْقِصُ مِنْهَا، وَالْجَمِيعُ تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَتَسْيِيرِهِ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الْأَعْرَافِ: 54] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أَيْ: لَدَلَالَاتٍ عَلَى قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ وَيَفْهَمُونَ حُجَجَهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} لما نبه سبحان على معالم السماوات (?) ، نبه على