وَقَوْلُهُ: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ} قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ} قَالَ: "الدَّقَل وَالْفَارِسِيُّ، والحُلْو وَالْحَامِضُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ (?) .
أَيْ: هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ وَالزُّرُوعِ، فِي أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا، وَطَعُومِهَا وَرَوَائِحِهَا، وَأَوْرَاقِهَا وَأَزْهَارِهَا.
فَهَذَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ وَذَا فِي غَايَةِ الْحُمُوضَةِ، وَذَا (?) فِي غَايَةِ الْمَرَارَةِ وَذَا عَفِص، وَهَذَا عَذْبٌ وَهَذَا (?) جَمَعَ هَذَا وَهَذَا، ثُمَّ يَسْتَحِيلُ إِلَى طَعْمٍ آخَرَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا أَصْفَرُ وَهَذَا أَحْمَرُ، وَهَذَا أَبْيَضُ وَهَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَزْرَقُ. وَكَذَلِكَ الزُّهُورَاتُ مَعَ أَنَّ كُلَّهَا يُسْتَمَدُّ (?) مِنْ طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الْمَاءُ، مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ وَلَا يَنْضَبِطُ، فَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيًا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي بِقُدْرَتِهِ فَاوَتَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَخَلَقَهَا عَلَى مَا يُرِيدُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (?) }
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {وَإِنْ تَعْجَبْ} مِنْ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِأَمْرِ الْمَعَادِ مَعَ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَدَلَالَاتِهِ فِي خَلْقِهِ عَلَى أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَمَعَ مَا يَعْتَرِفُونَ (?) بِهِ مِنْ أَنَّهُ ابْتَدَأَ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ، فَكَوَّنَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ هَذَا يُكَذِّبُونَ خَبَرَهُ فِي أَنَّهُ سَيُعِيدُ الْعَالَمِينَ خَلْقًا جَدِيدًا، وَقَدِ اعْتَرَفُوا وَشَاهَدُوا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِمَّا كَذَّبُوا بِهِ، فَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وَقَدْ عَلِمَ كل عالم وعاقل أن خلق السموات وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مَنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَأَنَّ مَنْ بَدَأَ الْخَلْقَ فَالْإِعَادَةُ سَهْلَةٌ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ثُمَّ نَعَتَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَذَا فَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} أَيْ: يُسْحَبُونَ بِهَا فِي النَّارِ، {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أَيْ: مَاكِثُونَ فِيهَا أَبَدًا، لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا وَلَا يَزُولُونَ.