حِينَ يَشْفَعُونَ فِي أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ تَأْتِي رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، فَتُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، وَقَالَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَضْمُونِ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ (?) ، وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ فِيهَا وَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهَا. وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِهَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ (?) ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، مِنَ الصَّحَابَةِ. وَعَنْ أَبِي مِجْلَز، وَالشَّعْبِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ التَّابِعَيْنَ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ -أَقْوَالٌ غَرِيبَةٌ. وَوَرَدَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ صُدَىّ بْنِ عَجْلان الْبَاهِلِيِّ، وَلَكِنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِثُنْيَاهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النِّسَاءِ:57] .
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، {فَفِي الْجَنَّةِ} أَيْ: فَمَأْوَاهُمُ الْجَنَّةُ، {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ: مَاكِثِينَ مُقِيمِينَ فِيهَا أَبَدًا، {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ هَاهُنَا: أَنْ دَوَامَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، لَيْسَ أَمْرًا وَاجِبًا بِذَاتِهِ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَهُ الْمِنَّةُ عَلَيْهِمْ [دَائِمًا] (?) ، وَلِهَذَا يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفس.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ فِي حَقِّ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي النَّارِ، ثُمَّ أُخْرِجُوا مِنْهَا. وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أَيْ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ (?) -قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْمَشِيئَةَ أَنَّ ثَمَّ انْقِطَاعًا، أَوْ لَبْسًا، أَوْ شَيْئًا (?) بَلْ خَتَمَ لَهُ بِالدَّوَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ. كَمَا بَيَّنَ هُنَا (?) أَنَّ عَذَابَ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ دَائِمًا مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ (?) بعَدْله وَحِكْمَتِهِ عَذَّبَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هُودٍ:107] كَمَا قَالَ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ:23] ، وَهُنَا طَيَّبَ الْقُلُوبَ وثَبَّت المقصود بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .