وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَذِكْرُهَا مُكْتَنِفٌ لِهَذَا كُلِّهِ.

وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وقَتَادَةَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ فِي "بَرَاءَةَ": {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ:29] فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ آيَةَ بَرَاءَةَ فِيهَا الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ إِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ كَثِيفًا، فَإِنَّهُ تَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَكَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَا مُنَافَاةَ وَلَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ، واللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ: صَالِحْهُمْ وَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ، وَلَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِالصُّلْحِ خَدِيعَةً لِيَتَقَوَّوْا وَيَسْتَعِدُّوا، {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} أَيْ: كَافِيكَ وَحْدَهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ بِمَا أَيَّدَهُ بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ فَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أَيْ: جَمَعَهَا عَلَى الْإِيمَانِ بِكَ، وَعَلَى طَاعَتِكَ وَمُنَاصَرَتِكَ وَمُوَازَرَتِكَ {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أَيْ: لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَأُمُورٌ يَلْزَمُ مِنْهَا التَّسَلْسُلُ فِي الشَّرِّ، حَتَّى قَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ بِنُورِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 103] .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لما خَطَبَ الْأَنْصَارَ فِي شَأْنِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ قَالَ لَهُمْ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي" كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنَّ. (?)

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ: عَزِيزُ الْجَنَابِ، فَلَا يُخَيِّبُ رَجَاءَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ.

قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ بِشْرٍ الصَّيْرَفِيُّ الْقَزْوِينِيُّ فِي مَنْزِلِنَا، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ (?) الْقِنْدِيلِيُّ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا مَيْمُونُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ الشَّرُودِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَرَابَةُ الرَّحِمِ تُقْطَعُ، وَمِنَّةُ النِّعْمَةِ تُكْفَرُ، وَلَمْ يُرَ مِثْلُ تَقَارُبِ الْقُلُوبِ؛ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الشِّعْرِ: إِذَا مَتَّ ذُو الْقُرْبَى إليك برحمهفَغَشَّك واستَغْنى فَلَيْسَ بِذِي رَحِمِ

وَلَكِنَّ ذَا الْقُرْبَى الذي إن دعوتهأجاب ومن يرمي العدو الذي ترمي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015