قَالَ: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} وَهَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ لَا يَكُونُ نِدَاءً وَ [لَا] (?) جَهْرًا بَلِيغًا؛ وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [الْبَقَرَةِ:186] (?)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: رَفَعَ النَّاسُ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تدعون أصمَّ وَلَا غَائِبًا؛ إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ" (?)
وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الْإِسْرَاءِ:110] فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ سَبُّوهُ، وَسَبُّوا مَنْ أَنْزَلَهُ، وَ [سَبُّوا] (?) مَنْ جَاءَ بِهِ؛ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَلَّا يَجْهَرَ بِهِ، لِئَلَّا يَنَالَ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَا يُخَافِتَ بِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ فَلَا يُسْمِعُهُمْ، وَلْيَتَّخِذْ سَبِيلًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ. وَكَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}
وَقَدْ زَعَمَ ابْنُ جَرِيرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَبْلَهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: أَمْرُ السَّامِعِ لِلْقُرْآنِ فِي حَالِ اسْتِمَاعِهِ بِالذِّكْرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَهَذَا بِعِيدٌ مَنَافٍ لِلْإِنْصَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْصَاتَ إِذْ ذَاكَ أَفْضَلُ مِنَ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ، سَوَاءً كَانَ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، فَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ لَمْ يُتَابَعَا عَلَيْهِ، بَلِ الْمُرَادُ الْحَضُّ عَلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ مِنَ الْعِبَادِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، لِئَلَّا يَكُونُوا مِنَ الْغَافِلِينَ؛ وَلِهَذَا مَدَحَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ] } (?) وَإِنَّمَا ذَكَّرَهُمْ بِهَذَا لِيُتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ؛ وَلِهَذَا شُرِعَ لَنَا السُّجُودَ هَاهُنَا لَمَّا ذُكِرَ سُجُودُهُمْ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَلَا تُصَفُّونَ كَمَا تُصَفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا، يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأوَل، ويتَراصُّون فِي الصَّفِّ" (?)
وَهَذِهِ أَوَّلُ سَجْدَةٍ فِي الْقُرْآنِ، مِمَّا يُشْرَعُ لِتَالِيهَا وَمُسْتَمِعِهَا السُّجُودُ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَدَّهَا فِي سَجْدَاتِ الْقُرْآنِ (?)
آخَرُ [تَفْسِيرِ] (?) سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.