فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، وَمَيَّزَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ هُنَاكَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ، فَمَا هُوَ إِلَّا فِي حَدِيثِ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ (?) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (?) وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا] (?) وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا مَوْقُوفَانِ لَا مَرْفُوعَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِنَّمَا هُوَ فَطْرهم عَلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِيَاضِ بْنِ حمَار المُجَاشعي، وَمِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيع. وَقَدْ فَسَّرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الْآيَةَ بِذَلِكَ، قَالُوا: وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} وَلَمْ يَقُلْ: "مِنْ آدَمَ"، {مِنْ ظُهُورِهِمْ} وَلَمْ يُقَلْ: "مِنْ ظَهْرِهِ" {ذُرِّيَّاتِهِمْ} أَيْ: جَعَلَ نَسْلَهُمْ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ} [الْأَنْعَامِ:165] وَقَالَ: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ} [النَّمْلِ:62] وَقَالَ: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الْأَنْعَامِ:133]
ثُمَّ قَالَ: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أَيْ: أَوَجَدَهُمْ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ، قَائِلِينَ لَهُ حَالًا وَقَالَا. وَالشَّهَادَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالْقَوْلِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (?) {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الْأَنْعَامِ:130] الْآيَةَ، وَتَارَةً تَكُونُ حَالًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التَّوْبَةِ:17] أَيْ: حَالُهُمْ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ (?) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [الْعَادِيَاتِ:7] كَمَا أَنَّ السُّؤَالَ تَارَةً يَكُونُ بِالْقَالِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْحَالِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إِبْرَاهِيمَ:34] قَالُوا: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا هَذَا، أَنْ جَعَلَ هَذَا الْإِشْهَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ هَذَا كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ (?) لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَذْكُرُهُ، لِيُكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِخْبَارُ الرَّسُولِ بِهِ كَافٍ فِي وُجُودِهِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ. وَهَذَا جَعَلَ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِروا عَلَيْهَا مِنَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنْ يَقُولُوا} (?) أَيْ: لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} أَيْ: [عَنِ] (?) التَّوْحِيدِ {غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} (?) الْآيَةَ.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) }
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ،