الْجَمْعِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ لِيَكُونَ مِنْهُمْ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، فِي ثَانِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَطَرَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، كَمَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْمِيثَاقَ، وَجَعَلَهُ فِي غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا قَدَّرَ أَنَّ (?) مِنْهُمْ شَقِيًّا وَمِنْهُمْ سَعِيدًا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التَّغَابُنِ: 2] وَفِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقها" (?) وَقَدَرُ اللَّهِ نَافِذٌ فِي بَرَيَّتِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ {الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الْأَعْلَى: 3] وَ {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ"؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ] } (?)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا مِنْ أَبِينِ الدَّلَالَةِ عَلَى خَطَأِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ رَكِبَهَا أَوْ ضَلَالَةٍ اعْتَقَدَهَا، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهَا بَعْدَ عِلْمٍ مِنْهُ بِصَوَابِ وَجْهِهَا، فَيَرْكَبَهَا عِنَادًا مِنْهُ لِرَبِّهِ فِيهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَ فَرِيقِ الضَّلَالَةِ الَّذِي ضَلَّ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ هَادٍ، وَفَرِيقِ الْهُدَى، فَرْقٌ. وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ أَسْمَائِهِمَا وَأَحْكَامِهِمَا في هذه الآية [الكريمة] (?)