وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْكَفَّيْنِ بِضَرْبَتَيْنِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ؛ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ ذَرّ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَا تُصَلِّ. فَقَالَ عَمَّارٌ: أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَاءً، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ". وَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا وَمَسَحَ بِهَا (?) وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ (?) .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عفَّان، حَدَّثَنَا أَبَانٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَة (?) عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّارٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي التَّيَمُّمِ: "ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ" (?) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى فَقَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ لَمْ يُصَلِّ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أما تذكر إذ قال عمَّار لعمر: أَلَا تَذْكُرُ إِذْ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيَّاكَ فِي إِبِلٍ، فَأَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، فَتَمَرَّغْتُ فِي التُّرَابِ؟ فَلَمَّا رجعتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ، فَضَحِكَ وَقَالَ: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا"، وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ مَسَحَ كَفَّيْهِ جَمِيعًا، وَمَسَحَ وَجْهَهُ مَسْحَةً وَاحِدَةً بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَا جَرَمَ، مَا رَأَيْتُ عُمَرَ قَنِعَ بِذَاكَ قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النساء: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيًدا طَيِّبًا} ؟ قَالَ: فَمَا دَرَى عَبْدُ اللَّهِ مَا يَقُولُ، وَقَالَ: لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِي التَّيَمُّمِ لَأَوْشَكَ أَحَدُهُمْ إِذَا بَرَدَ الْمَاءُ عَلَى جِلْدِهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ (?) .
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [الْمَائِدَةِ:6] ،اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ بِتُرَابٍ طَاهِرٍ لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ ابْنِ الصِّمَّةِ: أَنَّهُ مَرّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُولُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، حَتَّى قَامَ إِلَى جِدَارٍ فَحَتَّهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أَيْ: فِي الدِّينِ الَّذِي شَرَعه لَكُمْ {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فَلِهَذَا أَبَاحَ إِذَا لَمْ تَجِدُوا الْمَاءَ أَنْ تَعْدِلُوا إِلَى التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَةُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مُخْتَصَّةً بِشَرْعِيَّةِ التَّيَمُّمِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أعطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلي: