وَقَوْلُهُ: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَالْبَخِيلُ جَحُود لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا تَظْهَرُ عَلَيْهِ وَلَا تَبِينُ، لَا فِي أَكْلِهِ (?) وَلَا فِي مَلْبَسِهِ، وَلَا فِي إِعْطَائِهِ وَبَذْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الإنْسَاَن لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [الْعَادِيَاتِ: 6، 7] أَيْ: بِحَالِهِ وَشَمَائِلِهِ، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [الْعَادِيَاتِ: 8] وَقَالَ هَاهُنَا: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وَلِهَذَا توعَّدهم بِقَوْلِهِ: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} وَالْكَفْرُ هُوَ السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ، فَالْبَخِيلُ يَسْتُرُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَيَكْتُمُهَا وَيَجْحَدُهَا، فَهُوَ كَافِرٌ لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ نِعْمَةً عَلَى عبدٍ أحبَّ أَنْ يَظْهَرَ أثرُها عَلَيْهِ" (?) وَفِي الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ: "وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ، مُثِنِينَ بِهَا عَلَيْكَ قَابِلِيهَا -وَيُرْوَى: قَائِلِيهَا-وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا" (?) .

وَقَدْ حَمَلَ بعضُ السَّلَفِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى بُخْلِ الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ الْعِلْمِ الَّذِي عِنْدَهُمْ، مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّيَاقَ فِي الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْبُخْلُ بِالْعِلْمِ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالضُّعَفَاءِ، وَكَذَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: {والَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} فَذَكر الْمُمْسِكِينَ الْمَذْمُومِينَ وَهُمُ الْبُخَلَاءُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَاذِلِينَ الْمُرَائِينَ الَّذِي يَقْصِدُونَ بِإِعْطَائِهِمُ السُّمْعَةَ وَأَنْ يُمدَحوا بِالْكَرَمِ، وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، وَفِي حديث الَّذِي فِيهِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَجَّرُ بِهِمُ النَّارُ، وَهُمْ: الْعَالِمُ وَالْغَازِي وَالْمُنْفِقُ، وَالْمُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ، يَقُولُ صَاحِبُ الْمَالِ: مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهِ إِلَّا أَنْفَقْتُ فِي سَبِيلِكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ؛ إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ. أَيْ: فَقَدْ أَخَذْتَ جَزَاءَكَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي أَرَدْتَ بِفِعْلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَدِيّ: "إِنَّ أَبَاكَ رامَ أَمْرًا فَبَلَغَهُ".

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدعان: هَلْ يَنْفَعُهُ إنفاقُه، وإعتاقُه؟ فَقَالَ: "لَا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ".

وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا] (?) } أَيْ: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ هَذَا القبيحِ وَعُدُولِهِمْ عَنْ فِعْلِ الطَّاعَةِ عَلَى وَجْهِهَا الشيطانُ؛ فَإِنَّهُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، وَقَارَنَهُمْ فَحَسَّنَ لَهُمُ الْقَبَائِحَ {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} وَلِهَذَا قال الشاعر (?)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015