فأقامَ اللهُ تعالى لحفظِ السُّنَّةِ أقوامًا ميَّزوا ما دخلَ فيها من الكذبِ والوهم
والغلطِ، وضبطُوا ذلكَ غايةَ الضبطِ وحفظوه أشدَّ الحفظِ.
ثم صنَّف العلماءُ التصانيفَ في ذلكَ، وانتشرت الكتبُ المؤلفةُ في الحديثِ
وعلومِهِ، وصارَ اعتمادُ الناسِ في الحديثِ الصحيح على كتابَي الإمامينِ أبي
عبدِ اللَّهِ البخاريِّ، وأبي الحسينِ مُسلم بنِ الحجَّاج القُشيريِّ - رضي اللَّهُ
عنهما.
واعتمادُهم بعدَ كتابيهما على بقيّة الكُتب الستةِ خصوصًا "سُنن أبي داود".
و"جامعُ أبي عيسى" و"كتابُ النسائيًّ " ثم كْتابُ ابنِ ماجةَ.
وقد صنّفَ في الصحيح مصنفاتٌ أُخر بعد صحيحي الشيخينِ، لكن لا
تبلغ كتابَي الشيخينِ.
ولهذا أنكرَ العلماءُ على من استدرك عليهما الكتابَ الذي سمَّاه:
" المُسْتدرك ".
وبالغَ بعضُ الحفَّاظِ فزعمَ أنَّه ليسَ فيه حديثٌ واحدٌ على شرطِهِما.
وخالفَهُ غيرُه، وقال: يصفو منه حديثٌ كثير صحيحٌ.
والتحقيقُ: أنَّه يصفو منه صحيحٌ كثيرٌ على غيرِ شرطِهِما، بل على شرطِ أبي عيسى ونحوِه، وأما على شرطِهِما فلا.
فقلَّ حديثٌ تركَاه إلا وله علةٌ خفيَّة، لكن لعزَّة من يعرفُ العللَ
كمعرفتِهِما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحدُ منهم إلا في الأعصارِ المُتباعدةِ.
صارَ الأمرُ في ذلك إلى الاعتمادِ على كتابيهما، والوثوقُ بهما والرجوعُ
إليهما، ثم بعدَهُما إلى بقيّةِ الكتبِ المُشارِ إليها.