وَاعْلَم أَن من الْأَسْرَار مَا لَا يسْتَغْنى فِيهَا عَن مطالعة خليط مساهم واستشارة نَاصح مسالم فليخترلها أَمينا فَإِن الركون إِلَى حسن الظَّن ذَرِيعَة إِلَى إفشاء السِّرّ وَأكْثر مَا يُؤْتى الْعَاقِل فِي أسراره من حسن ظَنّه واغتراره فَلَيْسَ كل من كَانَ على الْأَمْوَال أَمينا يجب أَن يكون على الْأَسْرَار مؤتمنا والعفة عَن الْأَمْوَال أيسر من الْعِفَّة عَن إذاعة الْأَسْرَار لِأَن الْإِنْسَان قد يذيع سر نَفسه بمبادرة لِسَانه وَسقط كَلَامه ويشح باليسير من مَاله ضنا بِهِ وحفظا لَهُ وَلَا يرى مَا أضاع من سره كَبِيرا فِي جنب مَا حفظه من يسير مَاله مَعَ عظم الضَّرَر الدَّاخِل عَلَيْهِ فَمن أجل ذَلِك كَأَن أُمَنَاء الْأَسْرَار أَشد تعذرا وَأَقل وجودا من أُمَنَاء الْأَمْوَال
وَلذَلِك عِلَّتَانِ
أَحدهمَا أَن الضَّرَر فِي إِضَاعَة الْأَمْوَال عَاجل وَالضَّرَر فِي إذاعة الْأَسْرَار آجل وَنَفس الْإِنْسَان موكلة بالأذى وَإِن حل مَا مضى
وَالثَّانيَِة أَن السِّرّ سهل الْخُرُوج مَعَ البروز لَا يُوجد لإذاعته مس فَهُوَ ينْطَلق إِن لم يحفظه حزم وَلَا يَقْهَرهُ عزم وَالْمَال صَعب المنطلق وثيق الْمجمع لَا يَبْدُو إِلَّا بسماحة نفس يتقابل فِيهَا الشُّح والسخاء ويترجح فِيهَا الْمَنْع وَالعطَاء وَفرق بَين مَا هُوَ مبذول إِلَّا بمانع وَبَين مَا هُوَ مَمْنُوع إِلَّا بباذل