فجاوبته عفراء ألا أيها الركب هكذا بيتاً فبيتاً إلى أربعة والباقي لعفراء وهذا غير صحيح لأن القبر في طريقها قبل منازلهم. وفي هذه الرواية بدل قوله فلا لقي الفتيان، فلا هنىء الفتيان بعدك غادة. والأول ألطف وبدل فلا وضعت انثى. فقال للحبالى لا يرجين غائباً وفيه إضافة غير مناسبة إذ لا مناسبة بين الحمل والغيبة إلا بتأويل لا يليق بفصاحة العرب، ولما فرغت من شعرها ألق نفسها على القبر فحركت فوجدت ميتة وما قيل من أنها منعت المجيء إلى قبره ومن أنه كان في عهد عثمان أو معاوية وأن الذي شهده الحاكي أحدهما ومن أن عمر قال لو أدركتها لجمعت بينهما غير صحيح الرواية كما في النزهة نعم حمل قول عمر على الرؤية وتمسك من قال أن عفراء لم تزر قبره بقولها:
عداني أن أزورك يا خليلي ... معاشر كلهم واش حسود
أشاعوا ما علمت من الدواهي ... وعابونا وما فيهم رشيد
فأما إذ تويت اليوم لحداً ... فدور الناس كلهم اللحود
فلا طابت لي الدنيا فراقاً ... لبعدك لا يطيب لي العديد
ولما قضت دفنت إلى جانبه فنبت من القبرين شجرتان حتى إذا صارتا على حد قامة التفتا فكانت المارة تنظر إليهما ولا يعرفان من أي ضرب من النبات وكثيراً ما أنشدت فيهما الناس فمن ذلك قول الشهاب محمود:
بالله يا سرحة الوادي إذا خطرت ... تلك المعاطف حيث الرند والغار
فعانقيهم عن الصب الكئيب فما ... على معانقة الأغصان انكار
وقول صاحب الأصل:
غصنان من دوحة طال ائتلافهما ... فيها فجالت صروف الدهر فافترقا
فصار ذا في يد تحويه ليس له ... منها براح وهذا في الغلاة لقا
حتى إذا ذويا يوماً وضمهما ... بعد التفرق بطن الأرض واتفقا
حنا على العهد في أرجائها فحنا ... كل على ألفه في الترب واعتنقا
قلت وبين هذين خلاف في اللفظ والمعنى ويحتمل رجوعه إلى خصوص وعموم مطلق فإن الأول أرق وأعذب وألطف ولكنه قاصر عن المراد وغير دال على خصوص المقام وفيه التكرار الذي عدته البلاغة عيباً فإن الرند والغار مترادفان وفيه عيب خفي إلا على الناقد فإنه لم يجعل المتعانقين المتحابين بل أمر السرحة يعني الشجرة أن تعانق تلك المعاطف يعني معاطف المعشوقة نيابة عن العاشق وعلل ذلك بالانكار على تعانق المتحابين وقد تظافرت كلمات المحبين باستسهال الذم في قضاء الوطر.
وأما الثاني فقد تضمن حكاية الحال مع حسن الاستعارة المكنية ودل على المقام ولكنه غير رقيق ولا خال عن السماجة. وتوفي عروة بن حزام على ما ذكر الذهبي في تاريخه في غلافة عثمان سنة ثلاثين من الهجرة ورأيت في كتاب مجهول التأليف أن وفاته كانت لعشر يقين من شوال سنة ثمان وعشرين ومن محاسن شعره قصيدته التي على حرف النون فقد ضمنها حكاية حاله بألفاظ رقيقة ومعان أنيقة وهي هذه:
خليل من عليا هلال بن عامر ... بصنعاء عوجا اليوم وانتظراني
ولا تزهدا في الأجر عندي واجعلا ... فإنكما بي اليوم مبتليان
ألم تعلما أن ليس بالمرج كله ... أخ وصديق خالص فذراني
أفي كل يوم أنت رام بلادها ... بعيني إنساناً هما غرقان
وعيناي ما وافيت نشر فتنظرا ... بما فيهما إلا هما تكفان
ألا فاحملاني بارك الله فيكما ... إلى حاضر البلقاء ثم دعاني
على جسرة الأصلاب ناجية السرى ... تقطع عرض البيد بالوخدان
ألماً على عفراء إنكما غدا ... بشحط النوى والبين مفترقان
فيا واشي عفراء ويحكما بمن ... وما والي من جئتما نشيان
بمن لو أراه غائباً لفديته ... ومن لو رآني عائباً لفداني
فيا واشي عفرا دعاني ونظرة ... تقر بها عيناي ثم زماني
أغركما مني قميص لبسته ... جديداً وبرد أيمنة زهياني
متى تكشفا عني القميص تبينا ... بي الضرر من عفراء يا فتيان