ومن دقيق الاشارات أن المتنبي مدح بعض أعداء ملكه فغضب عليه وهم أن يفتك به فهرب فأمر الملك بعد مدة كاتبه أن يلطف له القول ليأتي فيخدعه وكان الكاتب يحب المتنبي ولم تسعه المخالفة فكتب في آخر الكتاب قد عفونا إن شاء الله وشدد النون فلما وقف عليه رحل وأرسل إلى الكاتب الكتاب وقد زاد ألفاً بعد النون المشددة وهذه من ألطف الاشارات فإن الكاتب أراد بأن قوله تعالى أن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين وأراد المتنبي بزيادة الألف قوله تعالى " أنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ".
ومما ينسج في هذا النمط ما سمته العرب بالملاحن قال العلامة السيوطي عن ابن دريد أنه مشتق من اللحن يعني الفطنة وأن فائدتها التخلص من أنشوطة التعسف مع الأمن من المؤاخذة عند الألجاء قيل أسر شخص من تميم عند بكر بن وائل أو سعد بن ضبيعة وعزموا على غزو قومه فطلب من يرسله إلى أهله لحاجة فقالوا ليكن بحضرتنا لئلا تنفرهم قال لكم ذلك فجاؤه بمولد فاقل أخاف أن يكون أحمق فقال له كم هذه قال لا أدري وأنها كثيرة فقال له النيران أكبر أم الكواكب قال الكواكب وكل كبير فأومأ إلى الشمس فقال ما هذه قال الشمس فقال إنك عاقل بلغ قومي التحية وأن يكرموا الأسير فإن قومه يكرمونني وأن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبها ويركبوا جملي الأصهب وقل لهم قد أربي العرفج واشتكت النساء بآية ما أكلت معكم الحيس وأسألوا الحرث عن خبري فلما وقفوا على الكلام وقد قالوا جن الأعور بعن إذ لم نعرف له ناقة ولا جمل وصرفوا الرسول ودعوا الحرث فلما قصوا عليه القول قال أنذركم فقوله أكرموا الأسير يعني استكثروا من الزاد ومن علف الدواب وتهيؤا للرحيل فإنهم عازمون على أن يدهموكم بخيل ورجل والرمل عدد القوم الذين يغزونكم منهم وأن ذلك واضح كالشمس والناقة الحمراء الدهناء والجمل الأصهب الصعمان يقول اعدلوا عن السهل إلى الجبل وأربى العرفج يعني لبس الرجال السلاح واشتكت النساء حملت الشكاء وهي قرب صغار يحمل فيها المسافرون الماء والحيس كناية عن اخلاط الرجال فعملوا بقوله فنجوا ومن ذلك أمثلة ينتفع بها في التوبة عند الحاجة كقولك ما سألت فلاناً حاجة ضرباً من شجر شائك ولا رأيته أي ضربت رئته ولا كلمته أي جرحته ولا أعلمته أي شققت شفته العليا ولا أخذت له شعيرة أي رأس مسمار فضة ولا ثوباً أي قطعة من أقط ولا كسرت له سناً أي قطعة عشب ولا ضرصاً أي قطعة من المطر ولا لبست له جبة شيء يستر به السنان ولا أخذت له حماراً ولا اتاناً صخرتان معروفتان ولا عنزة أكمة سوداء ولا دجاجة كبة من غزل ولا فروجاً مدرعة ولا جحشة صوف كالحلقة ولا ظلمته أي ما سقيته لبناً ولا جلست له على حصير لحمة في جنب الفرس ولا أخذت له جراباً ما حول البئر ولا بيضة يعني الخودة ولا فرخاً هامة الدماغ ولا فروة جلدة الرأس ولا إبرة عظم المرفق ولا فأساً عظم القفا ولا كتبت جمعت ولالى هنا خط سيف البحر ولا وطئت له أرضاً باطن حافر الفرس ولا لعبت سال لعابي ولا رويت الحديث شددته بالرواء وهل الحبل ولا رأيت بطناً ولا فخذاً قبائل ولا ساقا ذكر الحمام ولا رجلاً قطعة الجراد ولا وجهاً أي قصداً ولا أبصرته أي رأيت قشراً على الجلد.
تشتمل على لطائف متفرقة تروق بالمسامع وتزين بها المجامع وحكى ولد الفرزدق قال اجتمع أبي وجميل وجرير وكثير ونصيب بالموسم فقال بعضهم لبعض لا تجتمعون مثل هذه فهلموا نفعل شيأ نذكر به في الزمان فقال جرير هل لكم أن نسلم على سكينة بنت الحسين فلعلها أن تكون سبباً لما أردتم فقالوا نعم الرأي وانطلقوا فطرقوا الباب فخرجت جارية ظريفة فبلغها كل السلام فدخلت ثم عادت فقالت أيكم القائل.
سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخوا الهموم يروم كل مرام
درست معالمها الرواسم بعدنا ... وسجال كل مجلجل سجام
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
يجري السواك على أغر كأنه ... برد تحدر من متون غمام
لو كنت صادقة بما حدثتنا ... لوصلت ذاك وكان غير تمام