فالخير كله منوط بالعزيمة الصادقة على الرشد، وهي الحملة الأولى التي تهزم جيوش الباطل، وتوجب الغلبة لجنود الحق، قال أبو حازم: إذا عزم العبد على ترك الآثام، أتته الفتوح.
ويكفيك مثالاً لهذا ما حدث من عمر بن عبد العزيز عندما دُفن سليمان بن عبد الملك قُرَّب إليه موكب الخلافة فتركه وركب بغلته، وصار مستصحبا لتلك العزيمة، فعلم الله صدقه فيها فأعانه عليها (?).
فهل تريد - أخي- الانتفاع بالقرآن؟! ما عليك إذن إلا أن تستصحب عزيمة صادقة في ذلك، ثم تترجم هذه الرغبة والعزيمة في صورة دعاء وطلب من الله عز وجل بأن يبلغك مرادك.
ترجمة الرغبة:
فإن كانت الخطوة الأولى للانتفاع الحقيقي بالقرآن هي اشتداد الرغبة، فإن الخطوة التي تليها .. بل تصحبها .. هي ترجمة هذه الرغبة بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل بأن يفتح قلوبنا لنور القرآن، ويُعرَّضها لحُسن التأثر به.
علينا أن ندعوه - سبحانه - دعاء المضطر الذي يخرج دعاؤه من أعماق أعماق قلبه، كالذي تتقاذفه الأمواج في البحر، فأخذ يصارع الغرق، وليس لديه شيء يتعلق به إلا أمله في الله بأن يستجيب تضرعه، وينقذه من الموت.
واعلم - أخي - أن مفتاح الإجابة هو التضرع والحرقة واستشعار الاحتياج الماس لله عز وجل.
يقول ابن رجب: وعلى قدر الحرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء (?).
وتذكر - أخي - قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» (?).
وعلينا ألا نكتفي بالدعاء والاستغاثة مرة أو مرتين، بل لا بد من الإلحاح والإلحاح على الله بدعاء المضطر مرات ومرات حتى ينفتح الباب.
فالله عز وجل يسمع دعاءنا، ويقدر على إجابته - وإجابة جميع الخلائق - من أول مرة، ولكنه يريد أن يرى منا الصدق في الطلب، وأننا جادون فيما ندَّعى، لذلك فهو قد يؤخر الإجابة اختبارًا لنا، فإن تركنا الباب، وأوقفنا التضرع والدعاء كان ذلك علامة وبيَّنة على عدم صدقنا في أننا بحاجة ماسة لإجابة ما نطلبه من الله، وأن الأمر لا يعدو أن يكون رد فعل لحالٍ طارئة عشنا معها، وتأثرنا بها تأثرًا لحظيًا، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يُستجب لي» (?).
ولنعلم جميعًا بأننا لو وصلنا لحالة الاضطرار والحرقة عند الدعاء مرات ومرات، فإن الباب - يقينًا - سيُفتح، والشيطان سيخنس، وشمس القرآن ستشرق في قلوبنا بنور ربها.
ومن أهم أوقات الإلحاح على الله ودعائه دعاء المضطر هو ذلك الوقت الذي يسبق قراءة القرآن، فالإلحاح الحار في هذا الوقت من شأنه أن يهيئ القلب لاستقبال القرآن استقبالاً صحيحًا.
فكما يقول تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ - فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 13، 14].
ومنها كذلك تلك الأوقات التي تستغلق فيها أبواب فهم الآيات علينا.