ومع حرصه صلى الله عليه وسلم على عدم انشغال الصحابة بشيء آخر غير القرآن كان كذلك يستخدم معهم أساليب التشويق المختلفة ليستثير مشاعرهم ويدفعهم للإقبال على القرآن والانشغال به.
روى مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصُفَّة، فقال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوَيْن (?)، في غير إثم ولا قطيعة رحم» فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك. قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلَم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل» (?).
كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على تعليم الصحابة ألفاظ القرآن، فإنه كان حريصًا كذلك على تعليمهم معانيه ..
يقول د. يوسف القرضاوي: ولقد جعل القرآن من مهام النبي صلى الله عليه وسلم: (تعليم الكتاب والحكمة) وهذا في أربع آيات من القرآن.
ولا ريب أن هذا التعليم ليس هو (التحفيظ) بدليل أنه معطوف على تلاوة الآيات عليهم: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164].
فالتعليم أخص من التلاوة.
إن هذا التعلم والتعليم هو الذي عبرت عنه بعض الأحاديث بـ (التدارس). ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».
ومعنى تدارس القرآن: محاولة التعرف على ألفاظه ومبانيه، وعلى مفاهيمه ومعانيه، وما يرشد إليه من العبر، وما يدل عليه من الأحكام والآداب (?).
ويقول الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - ومعنى مدارسة القرآن: القراءة والفهم والتدبر والتبين لسنن الله في النفس والآفاق، ومعرفة الوصايا والأحكام، وأنواع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وما إلى ذلك مما يحتاج المسلمون إليه (?) ..
ويؤكد على هذا المعنى الإمام ابن تيمية فيقول:
يجب أن يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يتناول هذا وهذا.
وقد قال أبو عبد الرحمن السُّلَمى: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل؛ قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا.
وذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 28]، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68].
وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن!.
وكذلك قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وعقل الكلام متضمن لفهمه.