روح القلوب وقوتها
من عجائب القرآن أنه ميسر للجميع، لا يحتاج إلى عقلية خاصة، أو طقوس معينة، أو أماكن محددة، أو أزمنة بعينها للتعامل معه.
فهو متاح في كل الظروف والأحوال .. يخاطب العامة والخاصة، والعلماء والأميين، والرجل والمرأة، فيُحدث في الجميع أثره العظيم، ويمد القلوب بالروح، ويفجر منابع إيمانه فيها، فيخرجها من الظلمات إلى النور، ومن غلبة الهوى إلى غلبة الإيمان.
إنه كالشمس تسع الجميع بضيائها وأثرها ودفئها، ويزيد عن شمس الدنيا بأن شمسه لا تغرب، ونوره لا يأفل.
وكما أن شمس الدنيا لا تؤثر إلا فيمن يتعرض لها؛ كذلك القرآن لا يؤثر إلا فيمن يتعرض له {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ - لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [التكوير:27، 28].
ولا يعني أبدًا عدم رؤية البعض للشمس بسبب الغيوم والسُّحب .. أنها غير موجودة، أو أن تأثير وجودها لا يعدو ذلك الضوء الخافت المختلط بالضباب، والذي تصعب معه الرؤية ..
كذلك القرآن، فمعجزته موجودة ومحفوظة بحفظ الله لها، ويظل تأثيرها الفذ يعمل ويعمل حتى قيام الساعة، فإن حالت الحُجب بيننا وبينها، وإن أصبحت تلك الحُجب بعضها فوق بعض، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون مدعاة للاستسلام للأمر الواقع، والظن بأن هذا هو الوضع الطبيعي للقرآن، بل علينا أن نجتهد ونجتهد في الوصول إلى دائرة التأثير المباشر لتلك المعجزة.
ومما يدعو للأسف أن طول أمد بعدنا عنها، مع إلفنا لذلك الوضع، جعلنا نكاد لا نصدق بكونها مصدرًا متفردًا فذًا للتأثير الدائم، والتغيير الحقيقي.
من هنا تظهر الحاجة للتذكير بأهمية هذه المعجزة والسر الأعظم فيها، ومظاهر تأثيرها ليكون ذلك دافعًا يدفعنا للبحث الجاد عن كيفية الوصول إليها والانتفاع بها.
من أهم الأوصاف التي وصف بها القرآن أنه: «روح» {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
فأهمية وجوده في القلب وتأثيره عليه، كأهمية الروح بالنسبة للجسد .. بل يزيد باعتبار أن الأجساد إلى زوال، وأن القلب هو محل نظر الله عز وجل، وعلى قدر سلامته وصحته تكون الاستقامة في الدنيا، والنجاة يوم القيامة {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ - إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
لذلك لا يخطئ من يقول بأن من يقرأ القرآن ويُحسن التعرض لتأثير آياته يجد نفسه وكأنه يتعامل مع «كائن حي يتحرك وينطق .. له مشاعر، يفرح ويحزن، يرضى ويغضب .. ينتقل بين سور القرآن فتتحرك بها مشاعره .. هذه سورة تثير فيه مشاعر الثقة والاعتزاز، وتلك سورة تثير فيه مشاعر الغيرة، وأخرى تثير فيه مشاعر الغضب لله، وتلك سورة تثير فيه مشاعر الأحزان، وهكذا .... » (?)
إنه ليس كتابًا فحسب، وليس دواء فحسب. إنه شيء متفرد لا يمكن إدراك كنهه وقدرته الفذة على العمل في ذات الإنسان .. إنه -كما يقول سيد قطب-: يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير، وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير (?) ..
إن القرآن كما يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: مأدبة الله عز وجل فمن دخل فيه فهو آمن (?)
وكيف لا، والذي يتلوه حق تلاوته يشعر بأنه (يعيش حياة نابضة في عالم آخر غير الذي يعيش فيه .. يدرك أن روحا تسرى فيه.
يحس من يقرأ في القرآن متنقلاً بين آياته وسوره أنه يعيش في قرية صغيرة، يجمعها مكان واحد، هي هذه المعمورة رغم اتساعها .. ويكتنفها زمان واحد من لدن آدم حتى قيام الساعة.
نصوص مفتوحة أمامها الطريق، لا يحدها زمان، ولا يقيدها مكان، تلقى تعاليمها لهذا الإنسان الذي لا تتغير مشاعره وجوانبه النفسية وميوله على اختلاف الزمان.
هكذا يجد كل إنسان فيه بغيته .. يُقبل عليه المهموم ليجد فيه بلسمه، ويقبل عليه المحزون ليجد فيه سلوته، ويقبل عليه العالم ليجد فيه طلبه، ويقبل عليه الهارب من قيود الحياة الرتيبة ليجد فيه خلوته .. يُقبل عليه الضال التائه ليجد ضالته، فهو - كما ورد في وصفه - مأدبة الله، كل إنسان يأخذ منه حاجته، ويجد فيه قناعته ومتعته وسلوته) (?) ..