بهذا الإيمان تعامل الصحابة مع القرآن، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: لقد عشنا برهة من الدهر وأحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فيُتَعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ من بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده، وينثره نثر الدقل (?) - وفي رواية: (وكل حرف منه ينادي: أنا رسول الله إليك لتعمل بي وتتعظ بمواعظي) (?).
ويؤكد على هذا المعنى الصحابي جُندب بن عبد الله رضي الله عنه بقوله:
كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن غلمان حَزاورة (?) فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا (?).
فإن قلت بأن هؤلاء قد أدركوا قيمة القرآن لأنهم سمعوا شيئًا لم يكونوا يألفونه .. سمعوه غضًا طريًا، فأنصتوا إليه مشدوهين، فامتلك عليهم مشاعرهم، وأحدث فيهم أثره البالغ.
نعم، هذا كلام صحيح كسبب من الأسباب التي أوصلتنا لهذا الوضع الغريب، فلقد ورثنا القرآن فيما ورثناه عن آبائنا، وورثنا نفس طريقة التعامل معه، كما ألفنا سماع نغمته منذ نعومة أظافرنا، فتعودنا عليه، فلم يعد يؤثر فينا كما أثر في الأجيال الأولى .. هذا بالإضافة إلى أسباب أخرى سيأتي بيانها - أدت مجتمعة إلى انزواء القرآن في ركن بعيد من عقولنا، وبيوتنا، وحياتنا.
وكأني بالقرآن ينادي علىَّ وعليك ويقول:
«هل أستحق منك هذه المعاملة مع أن هدفي إسعادك، وإدخال السرور والبهجة على قلبك ومساعدتك على مواجهة الحياة بحلوها ومرها؟!
أأكون في بيتك وتهجرني كل هذا الهجر؟!
أحين أكون بين يديك لا يصير نصيبي منك إلا حنجرتك؟!
أتسمع آياتي تتلى ولا تنصت لها؟!
أتدري ماذا سأقول لربك يوم القيامة؟!
هيا بادر قبل فوات الأوان، واجعلني حجة لك لا عليك».
من هنا نقول بأن نقطة البداية الصحيحة في طريق الانتفاع بالقرآن هي زيادة الإيمان والثقة فيه كمصدر متفرد للهداية والشفاء والتغيير، ويمكن بعون الله أن يتم هذا من خلال التعرف على السبب الأسمى لنزول القرآن، وبالأثر الذي يُحدثه في القلوب، والتعرف على نماذج واقعية أحدث فيها القرآن أثره، وبث فيها روحه، والتعرف كذلك على الأسباب التي أدت بنا إلى ضعف الإيمان بالقرآن، فصرنا كما قال ابن عمر رضي الله عنه: «ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده، وينثره نثر الدقل».
وبعد التعرف على الأسباب المختلفة التي أوصلتنا لهذه الحالة، علينا أن نتعرف على الوسائل المعينة على الانتفاع بالقرآن، لنبدأ بها مهمة تحقيق الوصال بين القلب والقرآن.
وفي الصفحات القادمة تبدأ بعون الله وفضله رحلة تعميق الإيمان بالقرآن، والتي تنطلق من التعرف على السبب الرئيس لنزول القرآن، والذي إن اتضح في الأذهان، واستقر مدلولة في القلوب، فسيكون له أعظم الأثر في تغيير نظرتنا للقرآن، وطريقة تعاملنا معه، ومن ثم الانتفاع الحقيقي به.
* * *