تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق، وتَغَشَّاها من الخوف والفَرَق .. ما تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب .. يحول بين النفس وبين مُضمراتها وعقائدها الراسخة فيها.

فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتَّاكها، أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيمانًا (?) ..

إن تأثير القرآن على القلوب لا يوجد له نظير، ومن ثمَ فإن من يُحسن التعرض له سيكون من أكثر الناس حبا للسُّنة، وحرصا على تطبيقها، وكيف لا والطاقة المتولدة من كثرة التأثر بآيات القرآن ستدفعه لتطبيق كل ما يستطيع تطبيقه مما يُحبه الله ورسوله.

القرآن والأعمال الصالحة الأخرى:

وليس المقصد كذلك من كلامنا عن القرآن التقليل من شأن بقية الأعمال الصالحة الأخرى، فكل طاعة، وكل عمل صالح له وظيفة في تشييد بنيان الإيمان في قلب المسلم، ولكن المقصد هو وضع القرآن في حجمه الصحيح بالنسبة لتلك الأعمال.

فكما أن للحج أعمالاً كثيرة كالسعي والطواف ورمي الجمار، إلا أن أهم عمل في الحج هو الوقوف بعرفة، فبه يتحقق أهم مقصود للحج من إظهار الذل والانكسار والتَبَؤُّس والافتقار لله عز وجل، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» (?).

وكما أن للتوبة أعمالاً كثيرة كالإقلاع عن الذنب، ورد المظالم، والاستغفار، إلا أن أهم عمل للتوبة هو الندم، وبدونه لن تتحقق التوبة .. قال صلى الله عليه وسلم: «الندم توبة» (?).

كذلك القرآن بالنسبة للإيمان، فكما أن كل طاعة، وكل عمل صالح من شأنه أن يزيد الإيمان كالصيام والصدقة وغيرهما إلا أن القرآن يُمثل العمود الفقري للإيمان، وبدونه لا يمكن للقلب أن يستعيد عافيته بصورة كاملة، وتُبث الروح في جنباته .. إنه كالماء فيه حياة لكل من شرب منه.

وفي هذا المعنى يقول ابن القيم:

وكل من القلب والبدن محتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح .. وكما أن البدن محتاج أن يرقى بالأغذية المصلحة له، والحمية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه ومنعه مما يضره، فكذلك القلب: لا يزكو، ولا ينمو، ولا يتم صلاحه إلا بذلك ..

ولا سبيل له إلى الوصول لذلك إلا من القرآن، وإن وصل إلى شيء منه من غيره .. فهو شيء يسير لا يحصل له به تمام المقصود (?) ..

من هنا ندرك مغزى قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:

لو بات رجل ينفق دينارًا دينارًا، ودرهمًا درهمًا، ويحملُ على الجياد في سبيل الله، حتى يصبح متقبلاً منه، وبت أتلو كتاب الله حتى أصبح متقبلا مني لم أحب أن لي عمله بعملي (?).

وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ضعيف البنية، وكان يُقل من صيام التطوع، فسئل عن سبب إقلاله من الصوم. فقال: إنه يضعفني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إلىَّ منه (?).

وإن تعجب فعجبٌ قول الضحاك بن مزاحم: لولا تلاوة القرآن لسرني أن أكون مريضا. فقيل له: لِمَ؟ قال: لأن المرض يرفع عني الحرج ويُكفر عني الذنوب، ويجرى لي مثل صالح ما كنت أعمل (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015