وشرطهما مدوّن معلوم لدى طلبة العلم1، فكانت روايتهما نقية صحيحة بعيدة عن النقد. لذلك تلقتها الأمة بالقبول حتى قال أحد الأئمة: لو حلف أحدهم بالطلاق أن جميع ما في البخاري ومسلم صحيح, لم يحنث ولم تطلق زوجته2 ... بيد أن غيرهما لم يكونوا على هذه الدرجة من الدقة والتمحيص؛ لذلك لم يغفل الأئمة الأعلام -عليهم رحمة الله- هذه الناحية, فوضعوا شروطا دقيقة ضابطة للعلم؛ حتى يحكم للرواية بالقبول أو الردّ، وقسموا الحديث تبعا لتلك الشروط إلى: صحيح، وحسن، وضعيف، ووضعوا لها درجات، وقسموا الضعيف إلى أقسام كثيرة.
ثم إن بعض من جاء بعدهم من المصنفين استشهد بروايات من غير أن يعزوها لمصدرها, وإن البعض منهم ساقها من غير تمحيص فلم تكتمل فوائدها؛ لأن الناظر فيها لا يعلم ما استشهد به المؤلف صحيحا أو سقيما, فأدرك الأئمة هذه المهمة فأماطوا اللثام عما خفي مصدره, وصعب مسلكه, وتعذر الوصول إليه.
ومن تلكم الكتب: كتاب "مختصر ابن الحاجب -عليه رحمة الله- في أصول الفقه" فهو كتاب جليل في فنه بديع في صنعه دقيق في عبارته، تلقاه العلماء وطلاب العلم بالقبول والعناية, ولكن كان فيه ما وصفنا. فلم يغفله الأئمة الحفاظ كما أنهم لم يغفلوا عن غيره, فشمّروا عن سواعد الجد لتبيين أحاديثها، وأعلام الدارسين لها بصحة الصحيح وحسن الحسن وعلة المعلول، كما أنهم بينوا مواطن أخذها ومظان عزوها. ومن أولئك الأعلام إمامنا الجليل الحافظ الناقد الأصيل عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر ابن كثير -عليه رحمة الله تعالى- فألّف كتابه القيم "تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب" فأجاد وأفاد، وهو الكتاب الذي قمت على تحقيقه، ولله الحمد والفضل والمنة, وقد قدمت له بدراسة تضمنت أربعة فصول, هي كما يلي:
الفصل الأول: دراسة حياة المؤلف الإمام ابن كثير، وتتضمن مبحثين: