أَمْرَيْنِ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ وَأَنْزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ هَلْ هُمْ يَخْتَارُونَ مَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَتْلِ أَعْدَائِهِ أَمْ يُؤْثِرُونَ الْعَاجِلَةَ مِنْ قَبُولِ الْفِدَاءِ فَلَمَّا اخْتَارُوا الثَّانِيَ عُوقِبُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)
قال القارىء بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ مَا لَفْظُهُ قُلْتُ بِعَوْنِ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ وَمَدْخُولٌ فَإِنَّهُ إِذَا صَحَّ التَّخْيِيرُ لم يجز العتاب والتعبير فَضْلًا عَنِ التَّعْذِيبِ وَالتَّعْزِيرِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ من تَخْيِيرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُنَّ لَوِ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا لَعُذِّبْنَ فِي الْعُقْبَى وَلَا فِي الْأُولَى وَغَايَتُهُ أَنَّهُنَّ يُحْرَمْنَ مِنْ مُصَاحَبَةِ الْمُصْطَفَى لِفَسَادِ اخْتِيَارِهِنَّ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى
وَأَمَّا قَضِيَّةُ الْمَلَكَيْنِ وَقَضِيَّةُ تَعْلِيمِ السِّحْرِ فَنَعَمِ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ وَابْتِلَاءٌ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَخْيِيرٌ لِأَحَدٍ وَلِهَذَا قال المفسرون في قوله تعالى (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) إِنَّهُ أَمْرُ تَهْدِيدٍ لَا تَخْيِيرٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أَمْ يُؤْثِرُونَ الْأَعْرَاضَ الْعَاجِلَةَ مِنْ قَبُولِ الْفِدْيَةِ فَلَمَّا اخْتَارُوهُ عُوقِبُوا بِقَوْلِهِ (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ) الْآيَةَ فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْجُرْأَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْجِنَايَةِ الْجَسِيمَةِ فَإِنَّهُمْ مَا اخْتَارُوا الْفِدْيَةَ لَا لِلتَّقْوِيَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَلِلشَّفَقَةِ عَلَى الرَّحِمِ وَلِرَجَاءِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَوْ فِي أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا وَقَعَ مِنْهُمِ اجْتِهَادًا وَافَقَ رَأْيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَايَتُهُ أَنَّ اجْتِهَادَ عُمَرَ وَقَعَ أَصْوَبَ عِنْدَهُ تَعَالَى فَيَكُونُ مِنْ مُوَافَقَاتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُسَاعِدُنَا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّهُ يُعَضِّدُهُ سَبَبُ النُّزُولِ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ بن عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةٌ عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَرَى يَا بن الْخَطَّابِ قُلْتُ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهُ فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ فَقُلْتُ يَا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي وَصَاحِبُكَ فَقَالَ أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الاية انتهى
قال القارىء وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جَمْعًا بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ مِنْهُمْ أَوَّلًا كَانَ بِالْإِطْلَاقِ ثُمَّ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَعْدَهُ بِالتَّقْيِيدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قوله (وفي الباب عن بن مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ وَأَبِي بَرْزَةَ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) أما حديث بن مَسْعُودٍ فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَرْزَةَ فَلْيُنْظَرْ مَنْ أَخْرَجَهُ وَأَمَّا حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ فأخرجه البخاري