وفي الأدباء من لا نعرفه ولا نتوهمه، وفي ذلك الأمر ما أحكموه وليس في
الناس من يُحكمه!
إني إذا أغمضت عيني فتمثلت لي الكتب هيأت لي منها خواطري كتابا
ممتعاً في الآداب العربية يوفي على الغاية وأشف من الغاية، ولكني التمست
ذات مرة طرفاً من أخبار الرواية والرواة عند العرب في فصل من هذا الباب
فجعلت أستقصي وأتصفح وأتقصص حتى نفضت على القلم سواد خمس عشرة ليلة، ولم يكن هذا البحث مما جردت فيه رسالة أو أفردت له مقالة، فما بالك بكتاب يكون هذا بعضَ فصوله وفرعاً من أصوله؟
وعندنا مباحث أخرى كمبحث التنظير والموازنة، ومبحث الصناعات
اللفظية وتحقيقها وتاريخها، وهي المادة الخبيثة التي لم يقم لها الأدب بعد أن
فشت فيه وكانت مسقط البلاء عليه، وناهيك من مبحث لم يضبط منه كتاب في الأدبيات إلا كما يحفظ الماء من أثر السابح وإن هو ضرب فيه بيديه ورجليه!
هذا إلى ما يعترض من أبواب كثيرة لا بد من كتابتها بما يستوفي حق التاريخ
وحق النقد وحق الأدب، وذلك مَقذف الحصا والجمار والنصَب الذي لا
يستخف به إلا من يقتحم على الرجال والأقدار، والرمض الذي لا يُسار فيه إلا على مثل حر النار، التراجم على طريقة النقد والتمحيص.
وأنت خبير بأن تاريخ العظماء إذا لم يكن في كتابته ابتسام العظمة وبشاشة الحياة وأثر الأخلاق فإنما هو صور ميتة منهم، وإنك إذا كتبت أن فلاناً الشاعر الكبير ولد سنة كذا وتوفي سنة كذا. . . ومن شعره قوله، وقوله، وقوله، وكان الناس لا يعلِّقون حساب أعمالهم على سنة ولادته ولا سنة وفاته، فما عدوتَ أن نشرتَ لهم من ذلك الميت صورة ميتة أيضاً!
ولعلك تذكر أيها العزيز ما بسطتُه في المقالة الأولى من نمط التأليف الذي
جرى عليه المعاصرون في ذلك، وكيف يجيئون بالطم والرَّم ولا يميزون
خبيثاً من طيب، وهم مع ذلك يُظهرون الاستبصار فيه ويتكلفون التبجح به، وقد قيل في رجل محروم منحوس الحظ يتعاطى مثل هذا الشأوِ من الطمع والرغبة:
إنه ما رئي أحد عَشق الرزقَ عشقه ولا أبغضه الرزق بُغضه، وكذلك أرى
أصحابنا وأولى لهم!
ألم يكن في الأدب إلا بعض فصول التاريخ ومختارات النظيم والنثير، ثم