يمتحنها امتحاناً عقلياً جدلياً محضاً بين استغلاق بدليل وفتح بدليل آخر ولا غاية له من ذلك إلا التضريب بين الأدلة وتغليب بعضها على بعض والانتهاء بالأقيسة المنطقية إلى منقطع الغاية؛ فالكفر بالشبهة عمل عقلي، والإيمان بالدليل عمل عقلي آخر، والعلم عمل غير هذين؛ لكن إذا قوي العقل وتمكن وأصاب وأمدته البصيرة النافذة والخيال اللامح الذي يلحق بالإلهام تبعه العلم فمال إليه لا محالة، لأن هذا العلم لا يكشف عن شيء إلا هتك عن سر من أسرار الطبيعة.
ولا يبين عن سر إلا أوضح منه ضرباً من ضروب الكمال في الخليقة، والكمال في نفسه دليل على المبدع، والأبداع الإلهي في كل معانيه إعجاز للعقل الإنساني وإعجاز العقل هو وسيلة الإيمان الصحيح.
فالعلم على هذا من وسائل الإيمان التي تؤدي إليه في الغاية لا في
الطريقة، بشرط أن يكون العقل سليماً صحيحاً، فزعم طه أنه لا يلتقي مع الدين وأنه ليس لالتقائهما من سبيل، إنما هو مبني على ما في عقله من التناقض أو على ما في نفسه من المرض.
إن هناك حقيقتين تعلوان بالدين علواً كبيراً حتى يفوت العلم أو العقلَ معاً
ويخضعهما جميعاً، فالأولى: أن العقل لا يدري كيف يعقل ولا كيف يفهم.
وما العلم في هذا بأعلم منه، فعمل هذه الخارقة المجهولة هو الدليل على
وجودها، وهي بعد معرفة غير معروفة، والثانية: أننا نخضع لنواميس كثيرة
متضاربة لا يعرف العقل ولا العلم ما هي في كنهها وذاتها، ولكن ما يقع من
آثارها توازناً واختلالاً هو الدليل على إثباتها وهي كذلك معرفة غير معروفة.
فليس مع هاتين الحقيقتين ما يمنع العقل والعلم أن يخضعا للدين، وما الدين
إلا إقرار الإلهية والاستدلال عليها بآثارها، وهي معرفة غير معروفة بالذات.
ومتى تناول الدين شؤون الناس والحياة وسنَّ طرقَ الاجتماع والمعاملة كما
عندنا في ديننا الحنيف، فقد توثقت الصلة بينه وبين العلم ووجب التوفيق بينهما فيما يختلفان عليه، وإلا كان أحدهما لغواً وعبثاً.
وهذا يكشف لك خبث أستاذ الجامعة. فإنه يقول بترك الدين على
استقراره، ليكون العلم رداً عليه فيهدم الدينُ نفسه بهذا الجمود ويهدمه العلم بالتغيير والتحول، فلا يبقى في الناس من يرى في هذا الدين الجامد شيئاً معقولا ولا شيئاً صحيحاً، ريصبح كأنه ضريبة على النفوس إن لم تكن وراءها قوة الحكومة لا تجد من يحملها ولا من يؤديها، وما هي إلا أعوام بعد ذلك حتى بصبح علماء هذا الدين في الأزهر كِعلماء الآثار في دارِ الآثار.