رجعتُ إلى النسخة العتيقة التي عندي من كتاب "كليلة ودمنة" وقد قلت
إنه ليس مثلها عند أحد غيري، وأنه لا تأبى عليها حكمة ولا تهولها حادثة ولا
يتعاظمها مَثل، وقد تصفحتها لعلني أصيب فيها مثلاً للجامعة وشيخها صاحب المعجزات والخوارق، فإذا كليلة يقول في بعض قوله:
فاضرب لي مثلاً في الرجل تعجبه نفسه فتغرُّه فتقحِمهُ في الجهلة المنكرة
يراها وحده علماً ولا يعرفها الناس أجمعون إلا حمقاً وجهلاً، فإنك أمسكت
عن الحديث آنفاً عند مثل المدرسة التي زعموا أن اسمها الجامعة في إيمانها
بشيخها وتربصها أن تقع منه المعجزة، وقلتَ إنه كان رجلاً مفتوناً فجمعت عليه بين الغرور فيه والغفلة منها، وزادت في حمقه بضعف تمييزها فانقلب لا يمسكه عقل ولا دين، وإنه كان يتقي بعض السوء على نفسه، وكان يعتبر على علمه بعض الاعتبار، فلما رأَى الجامعة مهملة مُخلاة ورأى أنه وحده فوق المئذنة
وأن المصلين وإمامهم على الأرض، أذن في المسلمين بلغة الروم، وقال: إذا
كان المصلون غِرباناً فالمؤذن ولا عجب من البوم. . . وزعمتَ يا دمنةُ أنها
كانت مدرسة كمدرسة الحمار، فما مثل مدرسة الحمار؟
قال دمنة: زعموا أنه كان بأرض كذا حمار خُيًل إليه أنه عظيم الهامة حتى
لا يكبره الثور إلا بقرنيه، وغمه زيادة القرنين في الثور، فلما فكر وقايس واعتبر صح عنده أن أذناً من أذنيه الطويلتين ترجح بالقرنين جميعاً وكان حماراً ذا قياس ومنطق عجيب، فزعم لنفسه أن رأساً في قدر رأسه لا بد أن ينشئ عقلاً، وأن عقلاً كهذا العقل يباع إنساناً، وأن إنساناً لا يكون حماراً، فاهتدى من ذلك إلى أنه خلقٌ غير الحمير وقال: فما يمنعني أن آتي عملاً لا يتعلق فيه أحد بذيلي.
ثم يكون دليلاً في الحمير على أني فوق الناس، فإنه يُشبه أن أكون لهذا خلقت، وما ينفعني أن أكون فخم النهيق، إن لم يكن معي من القدرة والتمكين ما
تحصل به الفضيلة على من لاينهق؟
قال دمنة: وكان له صديق منِ الكلاب يأنس به جماعة من صبيان القرية