فإن كان عندنا الكذابون والوضاعون ومن لا ثقة بهم، فإن عندنا الناقدين
والمصححين والثقات؛ ولكن ما أنت صانع في رجل كطه حسين جَهله أوسعُ
من علمه، ولسانه أوفى من عقله، ولا يدري إلى الآن أنه متى صار التاريخ إلى الطريقة الجدلية فلا حاجة إلا اطلاع ولا فكر ولا علم، وكل عاقي هو مؤرخ، إذ حسبه من العلم أن يقول فيما لم يكن إنه كان، وفيما كان: يجوز أنه لم يكن، وعجيب أن تكون هذه هي طريقة أستاذ الأدب في الجامعة وأن يكون رجال هذه الجامعة من الغفلة بحيث يظنون هذا علماً أو تجديداً في العلم. . .
ويقول في صفحة 48 يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أول أمره مع قريش: "ولم يكن يطمع في ملك ولا تغلب ولا قَهر، أو لم يكن ذلك في دعوته ".
وهذه العبارة الأخيرة يقلد فيها دهاة السياسة في لغتهم العملية التي
يجعلون لكل جملة منها بابين، غير أن طه سدَّ في عبارته البابين والنافذة
أيضاً. . . فإن معناها الصريح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولَ أمره لم يكن يطمع في ملك، أو كان يطمع، ولكنه كتم ذلك فلم يُظهره في دعوته التي دعا بها الناس إلى الله.
وإذن يا شيخ الجامعة فقد كان للدعوة بطن وظهر، ولا تكون كذلك إلا إذا
كانت من عنده هو لا من عند الله، وليتأمل القراء شنعة ما يخرج من هذا القياس من إنكار النبوة والرسالة، نعوذ بالله ونتوب إليه ونستغفره.
ثم يقول في صفحة 55: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحرض على الهجاء ويثيب عليه أصحابه، ويتحدّث أن جبريل كان يؤيد حساناً".
وهذا الجهل مما تضيق به الصدور فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن به الهجاء ولا الإقذاع، وإنما كانت تلك سُنة عربية اضطرته إليها طبيعة العرب لحماية أعراض المسلمين، فقد كان من هذه السنّة عند العرب أنه إذا سكت المشتوم صدق الشاتم فجرى كلامه مجرى التاريخ الصحيح، ثم كانت معارك الألسنة لا يسكت فيها إلا الذليل فسكوته ذل، ولا يُغلب فيها إلا العَيي فعيه ذل آخر، وكل ذلك من أمرهم فلم يكن بدٌّ من المصير إليه ليتعالمه العرب فلا يؤثر هجاء قريش أثره
فيهم ويكون سبباً لنفرتهم ولتوهين أمر المسلمين عليهم (?) .
وما كان جبريل