فَصَارَ نَظِيرَ مَا إذَا بَنَى خَانًا أَوْ سِقَايَةً أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِلَهُ أَوْ يَشْرَبَ مِنْهَا أَوْ يُدْفَنَ فِيهَا وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْقُرْبَةُ وَفِي الصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَفَقَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ» وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّقَرُّبَ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ وَاشْتِرَاطِ الْغَلَّةِ أَوْ بَعْضِهَا لِنَفْسِهِ يَمْنَعُ ذَلِكَ فَكَانَ بَاطِلًا كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ لَيْسَ فِي هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَةٌ ظَاهِرَةٌ إلَّا شَيْءٌ ذَكَرَهُ فِي الْوَقْفِ فَقَالَ إذَا وَقَفَ عَلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ جَازَ فَقَالَ هَذَا الْوَقْفُ عَلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ مَا يَكُونُ لِأُمِّ الْوَلَدِ حَالَ حَيَاةِ الْمَوْلَى يَكُونُ لِلْمَوْلَى وَقِيلَ إنَّهُ فِي الصَّحِيحِ عَلَى الْخِلَافِ ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقِيلَ يَجُوزُ لَهُنَّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُنَّ يُعْتَقْنَ بِمَوْتِهِ فَيَصِرْنَ أَجْنَبِيَّاتٍ فَيَصِيرُ اشْتِرَاطُهُ لَهُنَّ كَاشْتِرَاطِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ يَجُوزُ أَيْضًا تَبَعًا لِمَا بَعْدَ مَمَاتِهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ وَتَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهُ أَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ التَّقَرُّبَ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ وَاشْتِرَاطِ مَا ذُكِرَ يُمْنَعُ مِنْهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لَهُ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ أَصْلًا وَكَذَا إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ وَهُوَ مَجْهُولٌ فِي رِوَايَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ الْوَقْفُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ فَصْلُ اشْتِرَاطِ الْوِلَايَةِ لِنَفْسِهِ فَجَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ مُعْتَبَرٌ فَيُرَاعَى كَالنُّصُوصِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يُسَلِّمُهُ ثُمَّ تَكُونُ لَهُ الْوِلَايَةُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ شَرْطٌ عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهَا لِأَحَدٍ فَالْوِلَايَةُ لَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَكُونُ لَهُ الْوِلَايَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا تَرَكَ الشَّرْطَ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهِ فَصَارَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُهَا مِنْهُ وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِوِلَايَتِهِ كَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَكُونُ أَوْلَى بِعِمَارَتِهِ وَنَصَّبَ الْقَيِّمَ فِيهِ وَكَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ فَقَالَ قَالَ أَقْوَامٌ إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَا تَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ يَعْنِي بَعْضَ الْمَشَايِخِ قَالُوا ذَلِكَ.
قَالَ مَشَايِخُنَا الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَالتَّسْلِيمُ شَرْطٌ عِنْدَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا لَا يُنَافِي التَّسْلِيمَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَ التَّسْلِيمُ عِنْدَهُ إذَا شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ شَرْطَهُ يُرَاعَى
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَنْزِعُ لَوْ خَائِنًا كَالْوَصِيِّ وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يَنْزِعَ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَاقِفَ لَوْ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ وَكَانَ هُوَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْوَقْفِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَنْزِعَهَا مِنْهُ وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَيْسَ لِلْقَاضِي وَلَا لِلسُّلْطَانِ نَزْعُهُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَبْطُلُ وَنَظِيرُ هَذَا الْوَصِيُّ إذَا كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ يُنْزَعُ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يَفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ وَيَأْذَنَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ وَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ مِلْكُهُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَمَّا الْإِفْرَازُ فَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ لِلَّهِ إلَّا بِهِ لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَقُّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ لَمْ يَتَحَرَّرْ لِلَّهِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهِ فَلِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّسْلِيمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَإِذَا تَعَذَّرَ يُقَامُ تَحَقُّقُ الْمَقْصُودِ مَقَامَهُ أَوْ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ وَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَا التَّعْلِيقُ بِالْمَوْتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَقْفِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ وَيَحْبِسَ الْأَصْلَ وَلَفْظُهُ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْوَصِيَّةِ فَيَجِبُ تَعْلِيقُهُ بِالْمَوْتِ لِيَكُونَ وَصِيَّةً بِهِ أَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ وَلِذَا سَقَطَ التَّسْلِيمُ إلَى الْقَيِّمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا يَجُوزُ فِي الْمُشَاعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِمَا بَيَّنَّا فَصَارَ الْمَسْجِدُ مُخَالِفًا لِلْوَقْفِ عِنْدَ الْكُلِّ ثُمَّ يَكْتَفِي بِصَلَاةِ الْوَاحِدِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ فِعْلَ الْجِنْسِ كُلُّهُ مُتَعَذَّرٌ فَيُشْتَرَطُ أَدْنَاهُ وَعَنْهُمَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الصَّلَاةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِلْغَلَّةِ أَوْ السُّكْنَى فَاشْتِرَاطُ الْبَعْضِ أَوْ الْكُلِّ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ بِأَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ بِمَالٍ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ لِي لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ إذْ لَمْ يَكُنْ مُمَلَّكًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إلَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْقَدْرِ فَكَذَا فِي الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ وَكَشَرْطِ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ بَيْتًا اهـ.
(قَوْلُهُ ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ) وَهُوَ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَالتَّتِمَّةِ وَالذَّخِيرَةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ فَإِنَّ فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ جَعَلَ جَوَازَ الْوَقْفِ عَلَيْهِنَّ بِالِاتِّفَاقِ (قَوْلُهُ وَأَمَّا الثَّانِي إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ شَرْطُ الْوِلَايَةِ لِنَفْسِهِ فَقَدْ نَصَّ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَلَى جَوَازِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَنَقَلَ النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ وَقْفِ هِلَالٍ إذَا جَعَلَ أَرْضَهُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً لِلَّهِ أَبَدًا وَلَمْ يَشْرِطْ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ فَالْوِلَايَةُ لِلْوَاقِفِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ثُمَّ قَالَ النَّاطِفِيُّ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ لَا وِلَايَةَ لِلْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَشْرِطَهُ لِنَفْسِهِ إلَى هُنَا لَفْظُ كِتَابِ النَّاطِفِيِّ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ شَرْطُ صِحَّةِ الْوَقْفِ فَبَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ لَا يَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ إلَّا بِالشَّرْطِ السَّابِقِ. اهـ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ شَرْطَهُ يُرَاعَى) وَمِنْ ضَرُورَتِهِ سُقُوطُ التَّسْلِيمِ اهـ كَمَالٌ
(فَصْلٌ) لَمَّا اخْتَصَّ الْمَسْجِدُ بِأَحْكَامٍ تُخَالِفُ أَحْكَامُ مُطْلَقِ الْوَقْفِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَسْجِدِ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَلَا الْإِيصَاءُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ مُشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَفْرَدَهُ بِفَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَخَّرَهُ. اهـ.