قُلْنَا شَرْطُ النَّسْخِ الْعِلْمُ بِتَأَخُّرِ النَّاسِخِ وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُوجَدَا، وَلِأَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِإِرَادَةِ الزَّوْجِ اسْتِبْدَالَ غَيْرِهَا مَكَانَهَا وَالْآيَةُ الْأُولَى مُطْلَقَةٌ فَلَا يَصِحُّ دَعْوَى نَسْخِهَا بِهَا مُطْلَقًا، وَلِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَعْدِمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ فِي الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا نُسَلِّمُ نَسْخَهَا، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إلَّا إذَا كَرِهَتْهُ الْمَرْأَةُ وَخَافَتْ أَنْ لَا تُوَفِّيَهُ حَقَّهُ أَوْ لَا يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا وَمَنَعُوا إذَا كَرِهَهَا الزَّوْجُ لِمَا تَلَوْنَا وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ إذَا تَشَاقَّ الزَّوْجَانِ وَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالٍ يَخْلَعُهَا بِهِ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْعَادَةِ أَوْ الْأَوْلَوِيَّةِ لَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَأَرَادَ بِالْخَوْفِ الْعِلْمَ وَالتَّيَقُّنَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ قَالَ الشَّاعِرُ
إذَا مِتَّ فَادْفِنِي إلَى جَنْبِي كَرْمَةً ... تُرْوِي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا
وَلَا تَدْفِنَنِّي فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إذَا مَا مِتَّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا
أَيْ أَعْلَمُ وَأَتَيَقَّنُ، وَلِهَذَا رَفَعَهُ وَالتَّشَاقُّ الِاخْتِلَافُ وَالتَّخَاصُمُ مُشْتَقٌّ مِنْ الشَّقِّ وَهُوَ الْجَانِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْخُذُ شَقًّا خِلَافَ شَقِّ صَاحِبِهِ وَحُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ مُوَاجَبِ الزَّوْجِيَّةِ. .
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْوَاقِعُ بِهِ وَبِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ طَلَاقٌ بَائِنٌ) يَعْنِي الْوَاقِعُ بِالْخُلْعِ وَبِالطَّلَاقِ الصَّرِيحِ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ يَكُونُ بَائِنًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ الْعِوَضَ فَوَجَبَ أَنْ تَمْلِكَ هِيَ الْمُعَوَّضَ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ وَذَلِكَ بِالْبَائِنِ، وَكَذَا إذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ الْمُبَارَأَةِ كَانَ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهَا فِي الْمَجْلِسِ وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ قَالَ لَمْ أَعْنِ الطَّلَاقَ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعِوَضِ أَمَارَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الطَّلَاقُ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْعِوَضَ يُصَدَّقُ فِي لَفْظِ الْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ؛ لِأَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمِ الْخُلْعُ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] بَعْدَ قَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلَى أَنْ قَالَ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَصَارَتْ التَّطْلِيقَاتُ أَرْبَعًا، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ حَتَّى يُفْسَخَ بِخِيَارِ الْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَالْبُلُوغِ فَكَذَا بِالتَّرَاضِي وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ التَّمَامِ، وَلِهَذَا لَا يَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَبِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ قَبْلَ التَّمَامِ وَالْكَلَامُ فِيمَا بَعْدَهُ، وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ثَابِتٌ ضَرُورَةً فَلَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِهِ فِي حَقِّ الْفَسْخِ، وَلِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ كِنَايَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا كَمَا إذَا لَمْ يُسَمِّ مَالًا وَقَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْآيَةُ تَشْهَدُ لَنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلْقَتَيْنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] الْآيَةَ ثُمَّ ذَكَرَ الِافْتِدَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِعْلَ الزَّوْجِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ فِعْلَهُ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ لَكِنَّهُ بِعِوَضٍ ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ بِطَلْقَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ شَرَعَ طَلْقَتَيْنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ نَفَى الْجُنَاحَ عَنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْهُمَا، وَلِهَذَا اكْتَفَى بِذِكْرِ فِعْلِهَا فِي الِافْتِدَاءِ وَإِلَّا لَذَكَرَ فِعْلَهُ؛ لِأَنَّ الِافْتِدَاءَ لَا يَتِمُّ بِفِعْلِهَا وَحْدَهَا أَوْ نَقُولُ ذَكَرَ الطَّلْقَتَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ طَلْقَةً بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ فَتَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي هَذَا وَفِي قَوْلِهِ الْمُخْتَلِعَةُ لَا يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَزِمَهَا الْمَالُ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهَا فِي الْمَجْلِسِ) قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ قَدْ خَلَعْتُك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بَارَأْتُك أَوْ طَلَّقْتُك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ إلَيْهَا فِي الْمَجْلِسِ فَإِنْ قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا بَطَلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ بَدَأَتْ هِيَ فَقَالَتْ اخْلَعْنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بَارِئْنِي أَوْ طَلِّقْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ فَطَلَّقَهَا كَمَا اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ فَالْمَالُ لَهَا لَازِمٌ وَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا فَهِيَ امْرَأَتُهُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ، وَقَالَ الرَّازِيّ وَلَكِنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا كَانَ بِقَبُولِهَا الْمَالَ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَإِذَا قَبِلَتْ لَزِمَهَا الْمَالُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ. اهـ. وَقَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِ الْكَافِي: وَإِذَا اخْتَلَعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا فَالْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الزَّوْجُ ثَلَاثًا فَيَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَكَذَا كُلٌّ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ مَعَ حَذْفٍ. (قَوْلُهُ وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمِ الْخُلْعُ فَسْخٌ) قَالَ فِي الْكَافِي وَأَصَحُّ قَوْلَيْهِ أَنَّهُ طَلَاقٌ. اهـ
(فَرْعٌ) فِي فَتَاوَى أَبِي اللَّيْثِ أَنَّ مَنْ خَلَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ زَادَتْ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ زِيَادَةً أَنَّ الزِّيَادَةَ بَاطِلَةٌ. اهـ. تَتَارْخَانِيَّةُ. (قَوْلُهُ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ التَّمَامِ إلَخْ) وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ فِي الْحَالِ فَجَعَلَ لَفْظَ الْخُلْعِ عِبَارَةً عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ فِي الْحَالِ وَذَا إنَّمَا يَكُونُ بِالطَّلَاقِ. اهـ. كَافِي. (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فَسْخٌ قَبْلَ التَّمَامِ إلَخْ) فَكَانَ فِي مَعْنَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِتْمَامِ. اهـ. كَافِي. (قَوْلُهُ وَالْآيَةُ تَشْهَدُ لَنَا) قَالَ فِي الْكَافِي. وَأَمَّا الْآيَةُ فَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ التَّطْلِيقَةَ الثَّالِثَةَ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ، وَلِهَذَا لَا يَصِيرُ أَرْبَعًا اهـ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ. (قَوْلُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أَيْ التَّطْلِيقُ الشَّرْعِيُّ تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ أُخْرَى عَلَى التَّفْرِيقِ دُونَ الْجَمْعِ وَالْإِرْسَالِ دُفْعَةً فَإِنَّهُ بِدْعِيٌّ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ التَّثْنِيَةِ بَلْ التَّكْرِيرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] وَنَحْوَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. وَقَوْلُهُ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] تَخْيِيرٌ لِلْأَزْوَاجِ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُطَلِّقُونَ بَيْنَ إمْسَاكِهِنَّ بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِنَّ وَبَيْنَ التَّسْرِيحِ بِالْجَمِيلِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّهَا وَيُخَلِّيَ سَبِيلَهَا اهـ ش بِالْمَعْنَى لِلْهِنْدِيِّ