كَوْرًا فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ مِنْ رَفْعِهَا عَنْ الرَّأْسِ، وَإِلْقَائِهَا فِي الْأَرْضِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ إرْسَالُ ذَنَبِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الذَّنَبِ قِيلَ شِبْرٌ، وَقِيلَ إلَى وَسْطِ الظَّهْرِ، وَقِيلَ إلَى مَوْضِعِ الْجُلُوسِ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَعَمَّمُ بِالْعِمَامَةِ السَّوْدَاءِ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ يَوْمًا مَسْتُورَةٌ فَبَقِيَتْ تَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ، وَهِيَ مُتَحَيِّرَةٌ فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُك فَقَالَتْ أَتَعَجَّبُ مِنْ بَيَاضِ وَجْهِك تَحْتَ سَوَادِ عِمَامَتِك فَوَضَعَهَا مِنْ رَأْسِهِ، وَلَمْ يَتَعَمَّمْ بِالْعِمَامَةِ السَّوْدَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَيُكْرَهُ لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ «ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ، وَقَالَ إيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ فَإِنَّهَا زِيُّ الشَّيْطَانِ.»
وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ الثِّيَابِ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُوصِي أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، وَيَلْبَسُ رِدَاءً بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ، وَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الزِّينَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى آثَارَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ» وَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَرُبَّمَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلِلشَّابِّ الْعَالِمِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الشَّيْخِ الْجَاهِلِ) لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وَلِهَذَا يُقَدَّم فِي الصَّلَاةِ، وَهِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ تَالِيَةُ الْإِيمَانِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَالْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ الْعُلَمَاءُ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، وَالْمُطَاعُ شَرْعًا مُقَدَّمٌ، وَكَيْفَ لَا يُقَدَّمُونَ، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلِحَافِظِ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَهْمُ مَعَانِيهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِمَا فِيهِ لَا مُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّأَنِّي لَا بِالتَّوَانِي فِي الْمَعَانِي فَقَدَّرَ لِلْخَتْمِ أَقَلَّهُ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا كُلَّ يَوْمٍ حِزْبًا وَنِصْفًا أَوْ ثُلُثَيْ حِزْبٍ أَوْ أَقَلَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
(كِتَابُ الْفَرَائِضِ) وَهِيَ جَمْعُ فَرِيضَةٍ، وَالْفَرْضُ التَّقْدِيرُ يُقَالُ فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَهَا، وَسُمِّيَ هَذَا الْعِلْمُ فَرَائِضَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُفَوِّضْ تَقْدِيرَهُ إلَى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَبَيَّنَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النِّصْفِ وَالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ وَالثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثِ وَالسُّدُسِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ النُّصُوصَ فِيهَا مُجْمَلَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النور: 56] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وَإِنَّمَا السُّنَّةُ بَيَّنَتْهَا ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ.
وَقَدْ جَاءَتْ النُّصُوصُ بِهِ، وَبِالْحَثِّ عَلَى تَعْلِيمِهِ وَتَعَلُّمِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضْلٌ آيَةُ مُحْكَمَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَهُوَ يُنْسَى، وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ، وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَالْعِلْمُ مَرْفُوعٌ، وَيُوشِكُ أَنْ يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ وَالْمَسْأَلَةِ فَلَا يَجِدَانِ أَحَدًا يُخْبِرُهُمَا» فَجَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نِصْفَ الْعِلْمِ مَعَ صِغَرِ حَجْمِهِ وَقِلَّةِ مَسَائِلِهِ.
فَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ لَمَا قَابَلَ الْكُلَّ، وَهَذَا كَالْحِسِّيَّاتِ فَإِنَّ الشَّيْءَ الْقَلِيلَ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا يُقَابِلُ الْكَثِيرَ وَيُسَاوِيهِ إذَا كَانَ الْقَلِيلُ أَشْرَفَ مِنْهُ، وَمَعْنَى النِّصْفِ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ، وَهَذَا الْعِلْمُ مُخْتَصٌّ بِحَالَةِ الْمَمَاتِ وَغَيْرُهُ بِالْحَيَاةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَإِنَّهَا جَبْرِيَّةٌ أَوْ اخْتِيَارِيَّةٌ فَالْأَوَّلُ الْمِيرَاثُ، وَالثَّانِي غَيْرُهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (يَبْدَأُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِتَجْهِيزِهِ).
وَالْمُرَادُ مِنْ التَّرِكَةِ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ خَالِيًا عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْغَيْرِ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِهِ كَالرَّهْنِ وَالْعَبْدِ الْجَانِي وَالْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى التَّجْهِيزِ كَمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَحَاصِلٌ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ حَيَاتِهِ فَإِنَّ الْمَرْءَ يُقَدِّمُ نَفْسَهُ فِي حَيَاتِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُوصِي أَصْحَابَهُ إلَخْ) قِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَلَيْسَ عُمَرُ كَانَ يَلْبَسُ قَمِيصًا عَلَيْهِ كَذَا كَذَا رُقْعَةً قَالَ ذَاكَ لِحِكْمَةٍ وَهُوَ أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَوْ لَبِسَ ثِيَابًا نَفِيسَةً أَوْ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ أَلْوَانًا مِنْ الطَّعَامِ لَاقْتَدَى بِهِ عُمَّالُهُ فِي ذَلِكَ وَرُبَّمَا لَا يَكُونُ لَهُمْ ذَلِكَ فَيَأْخُذُونَ ظُلْمًا فَاخْتَارَ ذَلِكَ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ. اهـ.
(كِتَابُ الْفَرَائِضِ) (قَوْلُهُ «فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ») كَذَا هُوَ بِخَطِّ الشَّارِحِ اهـ.
(قَوْلُهُ «وَعَلِّمُوهُ») كَذَا هُوَ بِخَطِّ الشَّارِحِ. اهـ. (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ يَبْدَأُ بِتَرِكَةِ الْمَيِّتِ) كَذَا بِخَطِّ الشَّارِحِ اهـ