الْمُسْلِمِينَ قَدْ قَتَلَ مُعَاهِدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ عُنُقُهُ. وَقَالَ أَنَا أَوْلَى مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ»
؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْعَبْدِ وَقَدْ وُجِدَتْ نَظَرًا إلَى الدَّارِ، وَإِلَى التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ الْقُدْرَةُ عَلَى مَا كُلِّفَ بِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ مَا كُلِّفَ بِهِ إلَّا بِدَفْعِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ عَنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُحَرَّمَ التَّعَرُّضِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ الْحِرَابِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَا يُقَاتِلُ مِنْهُمْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالذَّرَارِيِّ، وَقَدْ انْدَفَعَ الْقَتْلُ عَنْهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، فَكَانَ مَعْصُومًا بِلَا شُبْهَةٍ وَلِهَذَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ، وَلَوْ كَانَ فِي عِصْمَتِهِ خَلَلٌ لَمَا قُتِلَ الذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ كَمَا لَا يُقْتَلُ الْمُسْتَأْمِنُ بِالْمُسْتَأْمِنِ وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ مَعْصُومَةً بِلَا شُبْهَةٍ كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِهَذَا يُقْطَعُ الْمُسْلِمُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ، وَلَوْ كَانَ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةٌ لَمَا قُطِعَ كَمَا لَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْمُسْتَأْمِنِ.
؛ لِأَنَّ الْمَالَ تَبَعٌ لِلنَّفْسِ وَأَمْرُ الْمَالِ أَهْوَنُ مِنْ النَّفْسِ فَلَمَّا قُطِعَ بِسَرِقَتِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَلَ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ مَوْلَاهُ وَيُقْتَلُ بِقَتْلِ مَوْلَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَاَلَّذِي يَدُلُّك عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ قُتِلَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا قَتْلُ مُسْلِمٍ بِكَافِرٍ فَلَوْلَا أَنَّ الْمُسْلِمَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِقَتْلِ الذِّمِّيِّ ابْتِدَاءً لَمَا دَامَ الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْبَقَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا مُعْتَبَرَةٌ بِالِابْتِدَاءِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ أَلَا تَرَى أَنَّ مُسْلِمًا لَوْ جَرَحَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْجُرْحِ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَبِعَكْسِهِ لَوْ جَرَحَ مُرْتَدٌّ مُرْتَدًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَجْرُوحُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِمَا ذَكَرْنَا وَمَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» أَيْ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ.
وَلِهَذَا عَطَفَ {ذُو الْعَهْدِ}، وَهُوَ الذِّمِّيُّ عَلَى الْمُسْلِمِ تَقْدِيرُهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَا ذُو عَهْدٍ بِكَافِرٍ حَرْبِي؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا قُتِلَ بِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَرْبِيُّ إذْ هُوَ لَا يُقْتَلُ بِهِ مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ وَلَا يُقَالُ مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ مُطْلَقًا أَيْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فَيَكُونُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ " ذُو عَهْدٍ " مُفْرَدٌ وَقَدْ عُطِفَ عَلَى الْجُمْلَةِ فَيَأْخُذُ الْحُكْمَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ النَّاقِصَ بِأَخْذُ الْحُكْمَ مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ التَّامِّ كَمَا يُقَالُ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَيُقَالُ قُتِلَ زَيْدٌ بِعَمْرٍو وَخَالِدٍ أَيْ كِلَاهُمَا قَامَ أَوْ قُتِلَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ لَهُ خَبَرٌ آخَرُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى يَأْبَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِسَوْقِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ نَفْيُ الْقَتْلِ قِصَاصًا لَا نَفْيُ مُطْلَقِ الْقَتْلِ، فَكَذَا الثَّانِي تَحْقِيقًا لِلْعَطْفِ إذْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ فِي الْمُفْرَدِ، وَلَا يُقَالُ مَعْنَاهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا بِذِي عَهْدٍ أَيْ لَا يُقْتَلُ بِكَافِرٍ حَرْبِيٍّ وَلَا بِذِمِّيٍّ.
لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَكَانَ لَحْنًا إذْ لَا يَجُوزُ عَطْفُ الْمَرْفُوعِ عَلَى الْمَجْرُورِ، فَلَا تَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَلَا يُقَالُ رُوِيَ " ذِي عَهْدٍ " بِالْجَرِّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْكَافِرِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُمْ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنْ صَحَّ ذَلِكَ هُوَ جَرٌّ لِلْمُجَاوَرَةِ لَا لِلْعَطْفِ عَلَيْهِ حَتَّى يُشَارِكَهُ فِي الْحُكْمِ وَمِثْلُهُ جَائِزٌ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بِالْجَرِّ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي الْحُكْمِ فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ، وَكَذَا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ الْمُرَادُ بِهِ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ حِينَ قُتِلَ عُمَرُ مَرَرْت عَلَى أَبِي لُؤْلُؤَةَ وَمَعَهُ الْهُرْمُزَانُ فَلَمَّا بَعَثَهُمْ ثَارُوا فَسَقَطَ مِنْ بَيْنَهُمْ خَنْجَرٌ لَهُ رَأْسَانِ مُمْسَكُهُ فِي وَسَطِهِ فَانْطَلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَعَهُ السَّيْفُ حَتَّى دَعَا الْهُرْمُزَانَ فَلَمَّا خَرَجَ إلَيْهِ قَالَ انْطَلِقْ حَتَّى نَنْظُرَ إلَى فَرَسٍ لِي ثُمَّ تَأَخَّرَ عَنْهُ حَتَّى إذَا مَضَى بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَاهُ بِالسَّيْفِ فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ السَّيْفِ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ ثُمَّ دَعَوْت جُفَيْنَةَ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَلَمَّا خَرَجَ إلَيَّ عَلَوْته بِالسَّيْفِ فَصُلِبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ انْطَلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَتَلَ ابْنَةَ أَبِي لُؤْلُؤَةَ صَغِيرَةً فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَعَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ. فَقَالَ أَشِيرُوا إلَيَّ فِي قَتْلِ هَذَا الرَّجُلِ فَتَقَ فِي الدِّينِ مَا فَتَقَ فَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فِيهِ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَأْمُرُونَهُ بِالشِّدَّةِ عَلَيْهِ وَيَحْثُونَهُ عَلَى قَتْلِهِ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعُثْمَانَ لَقَدْ عَفَاك اللَّهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْدَمَا بُويِعَتْ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ لَك عَلَى النَّاسِ سُلْطَانٌ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَلَى خُطْبَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَالْهُرْمُزَانِ وَجُفَيْنَةَ كَانَا كَافِرَيْنِ وَأَشَارَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى قَتْلِ عُبَيْدِ اللَّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ فَقَالَ أَنَا أَوْلَى مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ) قَالَ فِي الْفَائِقِ التَّكَافُؤُ التَّسَاوِي أَيْ تَتَسَاوَى فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ لَا فَضْلَ فِيهَا لِشَرِيفٍ عَلَى وَضِيعٍ وَالذِّمَّةُ الْأَمَانُ وَمِنْهَا سُمِّيَ الْمُعَاهِدُ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهُ أُومِنَ عَلَى مَالِهِ وَدَمِهِ لِلْجِزْيَةِ أَيْ إذَا أَعْطَى أَدْنَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَمَانًا فَلَيْسَ لِلْبَاقِينَ إخْفَاؤُهُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ أَشِيرُوا إلَيَّ فِي قَتْلِ هَذَا الرَّجُلِ) يَعْنِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ. اهـ. (قَوْلُهُ فَتَقَ فِي الدِّينِ) لَفْظَةُ فِي لَيْسَتْ فِي خَطِّ الشَّارِحِ فَلْيُرَاجَعْ الْحَدِيثَ. اهـ. (قَوْلُهُ مَا فَتَقَ) فَتَنَ الدَّيْنَ مَا فَتَنَ اهـ مِنْ الشَّارِحِ (قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ) أَيْ قَتْلُ الْهُرْمُزَانِ وَجُفَيْنَةَ وَابْنَةِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ. اهـ.