بِعَيْنِهِ بَلْ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ بِخِلَافِ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ إعَانَةً لَهُمْ، وَتَسْبِيبًا، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْعُدْوَانِ وَالْمَعْصِيَةِ؛ وَلِأَنَّ الْعَصِيرَ يُصْلِحُ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا جَائِزٌ شَرْعًا فَيَكُونُ الْفَسَادُ إلَى اخْتِيَارِهِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِجَارَةُ بَيْتٍ لِيَتَّخِذَهُ بَيْتَ نَارٍ أَوْ بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ يُبَاعُ فِيهِ خَمْرٌ بِالسَّوَادِ) أَيْ جَازَ إجَارَةُ الْبَيْتِ لِيَتَّخِذَهُ مَعْبَدًا لِلْكُفَّارِ وَالْمُرَادُ بِبَيْتِ النَّارِ مَعْبَدُ الْمَجُوسِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْرِيَهُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وَلَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ وَلِهَذَا يَجِبُ الْأَجْرُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ، وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ لِقَطْعِ نِسْبَتِهِ عَنْهُ فَصَارَ كَبَيْعِ الْجَارِيَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَبْرِئُهَا أَوْ يَأْتِيهَا مِنْ دُبُرِهَا أَوْ بَيْعِ الْغُلَامِ مِنْ لُوطِيٍّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ آجَرَهُ لِلسُّكْنَى جَازَ، وَهُوَ لَا بُدَّ لَهُ فِيهِ مِنْ عِبَادَتِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالسَّوَادِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْمَعْبَدِ، وَإِظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي الْأَمْصَارِ لِظُهُورِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِيهَا فَلَا يُعَارَضُ بِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ بِخِلَافِ السَّوَادِ قَالُوا هَذَا فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ أَهْلِهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ، وَأَمَّا فِي سَوَادِ غَيْرِهَا فِيهِ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ فَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهَا فِي الْأَصَحِّ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَحَمْلُ خَمْرٍ لِذِمِّيٍّ بِأَجْرٍ) أَيْ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَا هُوَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً، وَعَدَّ مِنْهَا حَامِلَهَا، وَلَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى الْحَمْلِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَلَا تَسَبُّبٍ لَهَا، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَلَيْسَ الشُّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ حَمْلَهَا قَدْ يَكُونُ لِلْإِرَاقَةِ أَوْ التَّخْلِيلِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِعَصْرِ الْعِنَبِ أَوْ قَطْفِهِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ الْمَقْرُونِ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا آجَرَهُ دَابَّةً لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا الْخَمْرَ أَوْ آجَرَهُ نَفْسَهُ لِيَرْعَى لَهُ الْخَنَازِيرَ فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ، وَفِي الْمُحِيطِ لَا يُكْرَهُ بَيْعُ الزَّنَانِيرِ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَالْقَلَنْسُوَةِ مِنْ الْمَجُوسِيِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إذْلَالٌ لَهُمَا وَبَيْعُ الْمُكَعَّبِ الْمُفَضَّضِ لِلرِّجَالِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِيَلْبَسَهُ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لَهُ عَلَى لُبْسِ الْحَرَامِ، وَلَوْ أَنَّ إسْكَافًا أَمَرَهُ إنْسَانٌ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ خُفًّا عَلَى زِيِّ الْمَجُوسِ أَوْ الْفَسَقَةِ أَوْ خَيَّاطًا أَمَرَهُ إنْسَانٌ أَنْ يَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا عَلَى زِيِّ الْفُسَّاقِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَسْبِيبٌ فِي التَّشَبُّهِ بِالْمَجُوسِ وَالْفَسَقَةِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَبَيْعُ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَأَرَاضِيِهَا) يَعْنِي يَجُوزُ أَمَّا الْبِنَاءُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِمَنْ بَنَاهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَنَى فِي الْمُسْتَأْجَرِ أَوْ الْوَقْفِ صَارَ الْبِنَاءُ مِلْكًا لَهُ وَجَازَ لَهُ بَيْعُهُ، وَأَمَّا أَرْضُهَا فَالْمَذْكُورُ هُنَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ أَرَاضِيَهَا مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا لِظُهُورِ آثَارِ الْمِلْكِ فِيهَا، وَهُوَ اخْتِصَاصُهُمْ بِهَا شَرْعًا، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَرَاضِيَهَا تُمْلَكُ، وَتَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ بَيْعَ أَرَاضِيِهَا وَالدُّورِ الَّتِي فِيهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَرَاضِيِهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا، وَلَا تُؤَجَّرُ بُيُوتُهَا»؛ وَلِأَنَّ الْحَرَمَ وَقْفُ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَيُكْرَهُ إجَارَةُ أَرْضِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَكَلَ أُجُورَ أَرْضِ مَكَّةَ فَكَأَنَّمَا أَكَلَ الرِّبَا»؛ وَلِأَنَّ أَرَاضِيَ مَكَّةَ كَانَتْ تُدْعَى فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَمَنِ الْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ السَّوَائِبُ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا سَكَنَهَا، وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا أَسْكَنَ غَيْرَهُ فِيهَا، وَمَنْ وَضَعَ دِرْهَمًا عِنْدَ بَقَّالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: لِقَطْعِ نِسْبَتِهِ عَنْهُ) قَالَ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِيخَانْ فِي شَرْحِهِ أَصْلُ هَذَا إذَا بَاعَ الْعَصِيرَ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ، وَلَا يُكْرَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: أَوْ بَيْعُ الْغُلَامِ مِنْ لُوطِيٍّ) قَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ فِي بُيُوعِ فَتَاوَاهُ رَجُلٌ لَهُ عَبْدٌ أَمْرَدُ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ فَاسِقٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْصِي اللَّهَ فِيهِ غَالِبًا يُكْرَهُ هَذَا الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. اهـ. غَايَةٌ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ ذَكَرَ فِي بَابِ بُيُوعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْمُحِيطِ الْمُسْلِمُ الْفَاسِقُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا أَمْرَدَ، وَكَانَ مِمَّنْ يَعْتَادُ اتِّبَاعَ الْأَمْرَدِ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَقَالَا هُوَ مَكْرُوهٌ) قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ قِيَاسٌ، وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ. اهـ. غَايَةٌ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَيُكْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَعَدَّ مِنْهَا حَامِلَهَا)، وَإِنَّمَا لُعِنَ الْحَامِلُ لِإِعَانَتِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: الْمُقِرُّونَ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ) أَيْ، وَهُوَ شُرْبُ الْخَمْرِ، وَلَا كَلَامَ لَنَا فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ. اهـ غَايَةٌ.
(قَوْلُهُ: وَمَنْ وَضَعَ دِرْهَمًا عِنْدَ بَقَّالٍ إلَخْ) قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ وَكُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً لَا يَجُوزُ مِثْلَ أَنْ يُقْرِضَ دَرَاهِمَ غَلَّةٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ صِحَاحًا أَوْ يُقْرِضَ قَرْضًا عَلَى أَنْ يَبِيعَ بِهِ بَيْعًا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ كُلَّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا، وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدَنَا أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُوجِبَةً بِعَقْدِ الْقَرْضِ مَشْرُوطَةً فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَشْرُوطَةٍ فِيهِ فَاسْتَقْرَضَ غَلَّةً فَقَضَاهُ صِحَاحًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ شَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ شَرَطَ الْبَيْعَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ جَازَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ إلَى هُنَا لَفْظُ الْكَرْخِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَمْلِيكُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ فَإِذَا جَرَّ نَفْعًا صَارَ كَأَنَّهُ اسْتَزَادَ فِيهِ الرِّبَا فَلَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ وَجَرُّ الْمَنْفَعَةِ يُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فِيهِ يَكُونُ الْمُقْتَرِضُ مُتَبَرِّعًا بِهَا فَصَارَ كَالرُّجْحَانِ الَّذِي دَفَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَدَلِ الْقَرْضِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْرِضُ فَإِذَا خَرَجَ عَطَاؤُهُ أَعْطَاهُ أَجْوَدَ مِمَّا أَخَذَ قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ وَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَقْرَضَ رَجُلًا مَالًا ثُمَّ جَاءَ لِيَقْبِضَهُ فَلَمْ يَقِفْ فِي ظِلِّ حَائِطِهِ وَوَقَفَ فِي الشَّمْسِ حَتَّى خَرَجَ