أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ كَانَ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ فَقَالَ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِلَا أَمْرِهِ جَازَ اسْتِحْسَانًا، وَلَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعُرْفِ لَا يَتَوَلَّى صَاحِبُ الْأُضْحِيَّةِ ذَبْحَهَا بِنَفْسِهِ بَلْ يُفَوِّضُ إلَى غَيْرِهِ فَصَارَ مَأْذُونًا لَهُ دَلَالَةً كَالْقَصَّابِ إذَا شَدَّ رِجْلَ شَاتِهِ لِلذَّبْحِ فَذَبَحَهَا إنْسَانٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهَا غَيْرَهَا فَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَنْقَصَ مِنْ الْأَوَّلِ تَصَدَّقَ بِمَا فَضْلَ، وَمَنْ غَصَبَ شَاةً فَضَحَّى بِهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَجَازَ عَنْ أُضْحِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْغَصْبِ السَّابِقِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ وَدِيعَةً فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِالذَّبْحِ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْمِلْكُ إلَّا بَعْدَهُ، وَلَوْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنْ ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا تَجُوزُ عَنْ الذَّابِحِ دُونَ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْإِرَاقَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَغْصُوبَةِ، وَإِنْ أَخَذَهَا مَذْبُوحَةً أَجْزَأَتْ الْمَالِكَ عَنْ التَّضْحِيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَوَاهَا فَلَا يَضُرُّهُ ذَبْحُهَا غَيْرُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(كِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ) هِيَ ضِدُّ الْإِرَادَةِ وَالرِّضَا فِي اللُّغَةِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الْمَكْرُوهُ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ، وَنَصَّ مُحَمَّدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ مَكْرُوهٍ حَرَامٌ)، وَإِنَّمَا لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ لَقَّبَهُ بِبَابِ الْكَرَاهِيَةِ، وَفِيهِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ بَيَانَ الْمَكْرُوهِ أَهَمُّ لِوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَالْقُدُورِيُّ لَقَّبَهُ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ الْمَنْعُ وَالْإِبَاحَةَ الْإِطْلَاقُ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا أَبَاحَ الشَّرْعُ، وَمَا مَنَعَ، وَلَقَّبَهُ بَعْضُهُمْ بِالِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَقَبَّحَهُ، وَلَفْظُ الِاسْتِحْسَانِ أَحْسَنُ فَلُقِّبَ بِهِ أَوْ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَسَائِلِهِ اسْتِحْسَانٌ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا وَبَعْضُهُمْ لَقَّبَهُ بِكِتَابِ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِهِ أَطْلَقَهُ الشَّرْعُ وَالزُّهْدُ وَالْوَرَعُ تَرَكَهَا.
وَهَذَا الْكِتَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ. (فَصْلٌ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كُرِهَ لَبَنُ الْأَتَانِ)؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ فَصَارَ مِثْلَهُ، وَكَذَا لَبَنُ الْخَيْلِ يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَلَحْمِهِ عِنْدَهُ ذَكَرَهُ قَاضِيخَانْ فِي فَتَاوَاهُ، وَلَا تُؤْكَلُ الْجَلَّالَةُ، وَلَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ أَكْلِهَا وَشُرْبِ لَبَنِهَا» وَالْجَلَّالَةُ هِيَ الَّتِي تَعْتَادُ أَكْلَ الْجِيَفِ وَالنَّجَاسَاتِ، وَلَا تَخْلِطُ فَيَتَغَيَّرُ لَحْمُهَا فَيَكُونُ مُنْتِنًا، وَلَوْ حُبِسَتْ حَتَّى يَزُولَ النَّتْنُ حَلَّتْ، وَلَمْ تُقَدَّرْ لِذَلِكَ مُدَّةٌ فِي الْأَصْلِ، وَقَدَّرَهُ فِي النَّوَادِرِ بِشَهْرٍ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي الْإِبِلِ وَبِعِشْرِينَ يَوْمًا فِي الْبَقَرِ وَبِعَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّاةِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الدَّجَاجَةِ أَمَّا الَّتِي تَخْلِطُ بِأَنْ تَتَنَاوَلَ النَّجَاسَةَ وَالْجِيَفَ، وَتَتَنَاوَلَ غَيْرَهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي لَحْمِهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلِهَذَا يَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِ جَدْيٍ غُذِّيَ بِلَبَنِ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ لَحْمَهُ لَا يَتَغَيَّرُ، وَمَا غُذِّيَ بِهِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الدَّجَاجِ؛ لِأَنَّهُ يَخْلِطُ، وَلَا يَتَغَيَّرُ لَحْمُهُ وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَأْكُلُ الدَّجَاجَ»، وَمَا رُوِيَ أَنَّ الدَّجَاجَ يُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يُذْبَحُ فَذَاكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّهِ لَا أَنَّهُ شَرْطٌ، وَلَوْ سُقِيَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ خَمْرًا فَذُبِحَ مِنْ سَاعَتِهِ حَلَّ أَكْلُهُ، وَيُكْرَهُ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْإِدْهَانُ وَالتَّطَيُّبُ مِنْ إنَاءِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ مُطْلَقًا)، وَقَدْ ذَكَرَ فِي إمْلَاءِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الرَّازِيّ قَالَ مُحَمَّدٌ لَوْ ذَبَحَ الْأُضْحِيَّةَ مُتَعَمِّدًا عَنْ صَاحِبِهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ أَجْزَأَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا هُيِّئَتْ لِلذَّبْحِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ. اهـ غَايَةٌ.
[كِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ]
(كِتَابُ الْكَرَاهِيَةِ) الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ كِتَابِ الْأُضْحِيَّةِ وَكِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ تُوجَدُ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِ الْأُضْحِيَّةِ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ فِي لَيَالِي أَيَّامِ النَّحْرِ مَكْرُوهَةٌ، وَكَذَا جَزُّ صُوفِهَا وَحَلْبُ لَبَنِهَا، وَإِبْدَالُ غَيْرِهَا مَكَانَهَا، وَكَذَلِكَ ذَبْحُ الْكِتَابِيِّ ثُمَّ عِبَارَاتُ الْكُتُبِ اخْتَلَفَتْ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ، وَقَدْ سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ، وَعَلَيْهِ كَتَبَ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا كَمُخْتَصَرِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ وَسَمَّاهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِاسْمِ الْكَرَاهِيَةِ، وَعَلَيْهِ وَضَعَ الطَّحَاوِيُّ مُخْتَصَرَهُ وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ سَمَّاهُ فِي مُخْتَصَرِهِ كِتَابَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَتَبِعَهُ الْقُدُورِيُّ وَغَيْرُهُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَحْسِنُهَا الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ. اهـ أَتْقَانِيٌّ.
(فَصْلٌ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ) (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ كُرِهَ لَبَنُ الْأَتَانِ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُكْرَهُ لُحُومُ الْأُتُنِ وَأَلْبَانُهَا، وَأَبْوَالُ الْإِبِلِ. اهـ. هِدَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَكَذَا لَبَنُ الْخَيْلِ يُكْرَهُ) وَجَعَلَ فِي الْهِدَايَةِ شُرْبَهُ حَلَالًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَشْرِبَةِ مِنْ هَذَا الشَّرْحِ. اهـ.
(قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَالتَّطَيُّبُ مِنْ إنَاءِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ إلَخْ)، وَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ فَسَيَجِيءُ مَتْنًا وَشَرْحًا فِي الصَّفْحَةِ الْآتِيَةِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) إلَخْ، وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا غَسْلُ قَلْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمَ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ أَوْ يُقَالُ التَّحْرِيمُ فِي اسْتِعْمَالِ ذَهَبِ الدُّنْيَا لَا ذَهَبِ الْجَنَّةِ أَوْ يُقَالُ اسْتِعْمَالُهُ حَرَامٌ عَلَى الْبَشَرِ لَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْمُسْتَعْمِلُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اهـ