الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُرْتَدَّ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ إنَّمَا تَوَقَّفَتْ لِمَكَانِ تَوَقُّفِهِ فِي مِلْكِهِ وَلَا مِلْكَ لَهُ هُنَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَهُ عِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ فِي مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ فَبَقِيَتْ الْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ إنْ عَلِمَ) أَيْ يَنْعَزِلُ الْمُضَارِبُ بِعَزْلِ رَبِّ الْمَالِ إيَّاهُ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَزْلَ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ بِعَزْلِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْوَكَالَةِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ عَلِمَ وَالْمَالُ عُرُوضٌ بَاعَهَا) أَيْ عَلِمَ الْمُضَارِبُ بِالْعَزْلِ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ عُرُوضٌ بَاعَ الْعُرُوضَ وَلَا يَنْعَزِلُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الرِّبْحِ وَلَا يَظْهَرُ إلَّا بِالنَّضِّ فَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْبَيْعِ لِيَظْهَرَ ذَلِكَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ لَا يَتَصَرَّفُ فِي ثَمَنِهَا)؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَعْدَ الْعَزْلِ كَانَ لِلضَّرُورَةِ حَتَّى يَظْهَرَ الرِّبْحُ إنْ كَانَ فِيهِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ بَعْدَ النَّضِّ فَصَارَ كَمَا إذَا عَزَلَهُ بَعْد مَا نَضَّ وَصَارَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ وَلَوْ عَزَلَهُ وَالْمَالُ نُقُودٌ لَكِنْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ النَّقْدَيْنِ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِجِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِرَدِّ جِنْسِهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ضَرُورَةً وَمَوْتُهُ وَارْتِدَادُهُ مَعَ اللُّحُوقِ وَجُنُونُهُ مُطْبَقًا وَالْمَالُ عُرُوضٌ كَعَزْلِهِ وَالْمَالُ عُرُوضٌ حَتَّى لَا يَمْنَعَهُ مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ بَيْعِهِ كَمَا لَا يَمْنَعُهُ عَزْلُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِهِ لَهُ بَعْدَ الْعَزْلِ لِأَجْلِ حَقِّ الْمُضَارِبِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رِبْحٌ فَيَظْهَرُ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَزْلُ حُكْمِيًّا، أَوْ قَصْدِيًّا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَتَّى بِأَنْ نَضَّ كُلُّهُ، أَوْ كَانَ وَكِيلًا لَا مُضَارِبًا حَيْثُ يَخْتَلِفُ فِيهِ بَيْنَ الْعَزْلِ الْقَصْدِيِّ وَالْحُكْمِيِّ حَتَّى لَا يَنْعَزِلَ فِي الْقَصْدِيِّ إلَّا إذَا عَلِمَ وَفِي الْحُكْمِيِّ يَنْعَزِلُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْوَكَالَةِ وَهُنَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ ثُبُوتُ حَقِّهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِيهِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَزْلِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ هُنَا فَكَذَا كَوْنُهُ حُكْمِيًّا؛ لِأَنَّ الْقَصْدِيَّ بَعْدَ الْعِلْمِ يُسَاوِي الْحُكْمِيَّ مُطْلَقًا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ افْتَرَقَا وَفِي الْمَالِ دُيُونٌ وَرِبْحٌ أُجْبِرَ عَلَى اقْتِضَاءِ الدُّيُونِ)؛ لِأَنَّهُ كَالْأَجِيرِ وَالرِّبْحُ كَالْأُجْرَةِ لَهُ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ فَيُجْبَرُ عَلَى إتْمَامِ عَمَلِهِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ الْمَحْضَةِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِلَّا لَا يَلْزَمُهُ الِاقْتِضَاءُ) أَيْ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَا يَلْزَمُهُ الِاقْتِضَاءُ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مَحْضٌ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ وَلَا جَبْرَ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ عَلَى إنْهَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ الْوَاهِبُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَلَا يُقَالُ الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّسْلِيمِ كَمَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ رَفْعُ الْمَوَانِعِ وَذَلِكَ بِالتَّخْلِيَةِ لَا بِالتَّسْلِيمِ حَقِيقَةً.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيُوَكِّلُ الْمَالِكُ عَلَيْهِ) أَيْ يُوَكِّلُ الْمُضَارِبُ الْمَالِكَ، وَهُوَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَرَبُّ الْمَالِ لَيْسَ بِعَاقِدٍ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ إلَّا بِتَوْكِيلِهِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّوْكِيلِ كَيْ لَا يُضَيِّعَ حَقَّهُ وَعَلَى هَذَا كُلُّ وَكِيلٍ بِالْبَيْعِ وَكُلُّ مُسْتَبْضِعٍ إذَا امْتَنَعَ مِنْ التَّقَاضِي لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّقَاضِي وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُحِيلَ صَاحِبَ الْمَالِ كَيْ لَا يُضَيِّعَ حَقَّهُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالسِّمْسَارُ يُجْبَرُ عَلَى التَّقَاضِي)؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي لِلنَّاسِ عَادَةً بِأُجْرَةٍ فَجُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّقَاضِي وَالِاسْتِيفَاءُ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ بَدَلُ عَمَلِهِ فَصَارَ كَالْمُضَارِبِ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ وَالسِّمْسَارُ بِكَسْرِ الْأَوَّلِ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ وَالْجَمْعُ السَّمَاسِرَةُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي لِلنَّاسِ بِأُجْرَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَأْجَرَ، وَلَوْ اُسْتُؤْجِرَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ أَوْ يَبِيعَ شَيْئًا مَعْلُومًا لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمُسَاعَدَةِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَالْحِيلَةُ فِي جَوَازِهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ يَوْمًا لِلْخِدْمَةِ فَيَسْتَعْمِلَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إلَى آخِرِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ الْمَنْفَعَةَ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ قَدْرِ الْمُدَّةِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ، وَلَوْ عَمِلَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَأَعْطَاهُ شَيْئًا لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ مَعَهُ حَسَنَةً فَجَازَاهُ خَيْرًا وَبِذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمِنْ الرِّبْحِ)؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَرَأْسُ الْمَالِ أَصْلٌ لِتَصَوُّرِ وُجُودِهِ بِدُونِ الرِّبْحِ لَا الْعَكْسُ فَوَجَبَ صَرْفُ الْهَالِكِ إلَى التَّبَعِ لِاسْتِحَالَةِ بَقَائِهِ بِدُونِ الْأَصْلِ كَمَا يُصْرَفُ الْهَالِكُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا عِنْدَهُمْ) قَالَ فِي الْمَجْمَعِ وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ وَبِرِدَّتِهِ وَلَحَاقِهِ وَبِمَوْتِ الْمُضَارِبِ دُونَ رِدَّتِهِ. اهـ. (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ) أَيْ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ. اهـ. .
(قَوْلُهُ وَلَا يَظْهَرُ إلَّا بِالنَّضِّ) فِي الْمُغْرِبِ نَضِيضُ الْمَاءِ خُرُوجُهُ مِنْ الْحَجَرِ أَوْ نَحْوِهِ وَسَيَلَانُهُ قَلِيلًا قَلِيلًا مِنْ حَدِّ ضَرَبَ وَمِنْهُ خُذْ مَا نَضَّ لَك مِنْ دَيْنِك أَيْ مَا تَيَسَّرَ وَحَصَلَ وَفِي الْحَدِيثِ «يَقْتَسِمَانِ مَا نَضَّ بَيْنَهُمَا مِنْ الْعَيْنِ» أَيْ صَارَ وَرِقًا وَعَيْنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَتَاعًا وَالنَّاضُّ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ. اهـ. كَاكِيٌّ وَقَوْلُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَائِقِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْ نَاضِّ الْمَالِ هُوَ مَا نَضَّ مِنْهُ أَيْ صَارَ وَرِقًا وَعَيْنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَتَاعًا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ لَكِنْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ) أَيْ بِأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ وَالنَّاضُّ دَنَانِيرَ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَلَوْ افْتَرَقَا) الْمُرَادُ مِنْ افْتِرَاقِ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فَسْخُهُمَا عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَإِلَّا لَا يَلْزَمُهُ الِاقْتِضَاءُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَلْزَمُهُ الِاقْتِضَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ كَذَا فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.
(قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ) أَيْ، وَلَوْ ضَمِنَ الْعَاقِدُ لِرَبِّ الْمَالِ هَذَا الدَّيْنَ عَنْ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَمْ يَجُزْ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ جَعَلَهُ أَمِينًا فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ ضَمِينًا فِيمَا جَعَلَهُ الْعَقْدُ أَمِينًا. اهـ. غَايَةٌ.