فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَحْسَنَهُ» فَصَارَتْ مَشْرُوعَةً بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ الْأَثْمَانِ وَهُوَ مَعْلُومٌ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا شَائِعًا وَنَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْلُومًا وَأَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُسَلَّمًا إلَيْهِ فَإِنْ فُقِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَسَدَتْ
وَرُكْنُهَا أَنْ يَقُولَ دَفَعْت هَذَا الْمَالَ إلَيْك مُضَارَبَةً، أَوْ مُعَامَلَةً، أَوْ خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَنَا نِصْفَانِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِهَا الْمُضَارَبَةُ وَحُكْمُهَا أَنْوَاعٌ: إيدَاعٌ وَوَكَالَةٌ وَإِجَارَةٌ وَغَصْبٌ وَأَنْوَاعُهَا: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ عَلَى مَا يَجِيءُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُ مُفَصَّلًا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْمُضَارِبُ أَمِينٌ وَبِالتَّصَرُّفِ وَكِيلٌ وَبِالرِّبْحِ شَرِيكٌ وَبِالْفَسَادِ أَجِيرٌ وَبِالْخِلَافِ غَاصِبٌ وَبِاشْتِرَاطِ كُلِّ الرِّبْحِ لَهُ مُسْتَقْرِضٌ وَبِاشْتِرَاطِهِ لِرَبِّ الْمَالِ مُسْتَبْضِعٌ) يَعْنِي بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ أَمِينًا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَيْهِ مَضْمُونًا أَقْرَضَهُ رَأْسَ الْمَالِ كُلَّهُ وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ وَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ مِنْهُ مُضَارَبَةً، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي الْعَمَلِ فَإِذَا عَمِلَ وَرَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ وَأَخَذَ رَأْسَ الْمَالِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ الْقَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ أَخَذَ رَأْسَ الْمَالِ بِالْقَرْضِ، وَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ وَهُوَ الْعَامِلُ، أَوْ أَقْرَضَهُ كُلَّهُ إلَّا دِرْهَمًا مِنْهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَعَقَدَا شَرِكَةَ الْعِنَانِ، ثُمَّ يَدْفَعُ إلَيْهِ الدِّرْهَمَ وَيَعْمَلُ فِيهِ الْمُسْتَقْرِضُ فَإِنْ رَبِحَ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، وَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا صَارَ وَكِيلًا بِالتَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ بِأَمْرِهِ وَهَذَا مَعْنَى الْوَكَالَةِ، وَإِنَّمَا صَارَ شَرِيكًا لَهُ إذَا رَبِحَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ فَصَارَ ثُبُوتُ الشَّرِكَةِ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّتِهَا وَصِحَّةِ الِاشْتِرَاطِ، وَإِنَّمَا صَارَ أَجِيرًا إذَا فَسَدَتْ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَهُ فِيهَا أَجْرُ الْمِثْلِ كَالْإِجَارَةِ إذَا فَسَدَتْ وَهُوَ بَدَلُ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى لِعَدَمِ الصِّحَّةِ وَكَذَا
عَمَلُهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يَرْضَ بِالْعَمَلِ مَجَّانًا فَيَجِبُ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ بِخِلَافِ الشَّرِيكِ حَيْثُ لَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً إذَا فَسَدَتْ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ الرِّبْحَ بِالْمَالِ لَا بِالْعَمَلِ، ثُمَّ لَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الشَّرِكَةِ، وَإِنَّمَا صَارَ غَاصِبًا بِالْخِلَافِ لِوُجُودِ التَّعَدِّي عَلَى مَالِ الْغَيْرِ كَالْغَصْبِ
وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ فَإِذَا خَالَفَ فَقَدْ تَعَدَّى فَصَارَ غَاصِبًا فَيَضْمَنُ، وَإِنَّمَا صَارَ الْمُضَارِبُ مُسْتَقْرِضًا بِاشْتِرَاطِ كُلِّ الرِّبْحِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ كُلَّهُ إلَّا إذَا صَارَ رَأْسُ الْمَالِ مِلْكًا لَهُ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ كَالثَّمَرَةِ لِلشَّجَرِ، وَكَالْوَلَدِ لِلْحَيَوَانِ فَإِذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الرِّبْحِ لَهُ فَقَدْ مَلَّكَهُ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ مُقْتَضًى فَقَضِيَّتُهُ أَنْ لَا يَرُدَّ رَأْسَ الْمَالِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَقْتَضِي الرَّدَّ كَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ لَفْظَةَ الْمُضَارَبَةِ تَقْتَضِي رَدَّ رَأْسِ الْمَالِ فَجَعَلْنَاهُ قَرْضًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ عَمَلًا بِهِمَا؛ وَلِأَنَّ الْقَرْضَ أَدْنَى التَّبَرُّعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْحَقَّ عَنْ الْعَيْنِ دُونَ الْبَدَلِ
وَالْهِبَةُ تَقْطَعُ عَنْهُمَا فَكَانَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَقَلَّ ضَرَرًا، وَإِنَّمَا صَارَ مُسْتَبْضِعًا بِاشْتِرَاطِ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَطْلُبْ لِعَمَلِهِ بَدَلًا وَعَمَلُهُ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ فَكَانَ وَكِيلًا مُتَبَرِّعًا فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْبِضَاعَةِ فَكَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهَا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنَّمَا تَصِحُّ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ)، وَمَعْنَاهُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا غَيْرُ عِنْدَهُمَا وَالْفُلُوسُ النَّافِقَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مِثْلُهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الشَّرِكَةِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيُمْكِنُ تَقْدِيرُ رَأْسِ الْمَالِ بِمِثْلِ الْمَقْبُوضِ وَقَالَ مَالِكٌ تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ؛ لِأَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ يُسْتَرْبَحُ عَلَيْهَا بِالتِّجَارَةِ عَادَةً فَكَانَتْ كَالنَّقْدَيْنِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُضَارَبَةِ وَأَمْكَنَ تَقْدِيرُ رَأْسِ الْمَالِ بِالْقِيمَةِ إذْ هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ؛ وَلِهَذَا تَبْقَى الْمُضَارَبَةُ عَلَيْهَا فَكَذَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِهَا، وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَالْمُضَارَبَةُ بِغَيْرِ النُّقُودِ تُؤَدِّي إلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَرُبَّمَا زَادَتْ قِيمَتُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ وَهُوَ مَعْلُومٌ) إمَّا تَسْمِيَةً أَوْ إشَارَةً. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَحُكْمُهَا أَنْوَاعٌ إيدَاعٌ) لَيْسَ هَذَا حُكْمَهَا وَإِنَّمَا هِيَ حَالَاتٌ لِلْمُضَارِبِ وَأَوْصَافٌ لَهُ اهـ مِنْ خَطِّ قَارِئِ الْهِدَايَةِ (قَوْلُهُ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ مَقْبُوضٌ بِالْقِيمَةِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَالْوَثِيقَةُ) احْتِرَازٌ عَنْ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ أَوْ أَقْرَضَهُ إلَخْ) هَذِهِ الْحِيلَةُ الثَّانِيَةُ عَزَاهَا الْأَتْقَانِيُّ لِشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهَا. اهـ. (قَوْلُهُ ثُمَّ يَدْفَعُ إلَيْهِ الدِّرْهَمَ) أَيْ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ الْمُقْرِضِ وَرَأْسُ مَالِ الْمُسْتَقْرِضِ جَمِيعَ مَا اسْتَقْرَضَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فِيهِ جَمِيعًا وَيُشْتَرَطَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَعْمَلُ الْمُسْتَقْرِضُ خَاصَّةً فِي الْمَالِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ، وَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ. اهـ. (قَوْلُهُ فَيَضْمَنُ) أَيْ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَعْدَمَا صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِلْمُضَارِبِ وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطِيبُ لَهُ كَالْغَاصِبِ وَالْمُودَعِ إذَا تَصَرَّفَا وَرَبِحَا لَا يَطِيبُ لَهُمَا الرِّبْحُ عَلَى الِاخْتِلَافِ كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ. اهـ. غَايَةٌ.
(قَوْلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ) وَمَا كُتِبَ فِي بَعْضِ كُتُبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ لَمْ أَجِدْهُ فِي كُتُبِهِمْ بَلْ ذَكَرَ فِيهَا لَا تَصِحُّ بِالْعُرُوضِ. اهـ. مِعْرَاجٌ (قَوْلُهُ وَالْمُضَارَبَةُ بِغَيْرِ النُّقُودِ تُؤَدِّي إلَيْهِ) بَيَانُهُ أَنَّهُ الْمُضَارِبُ لَوْ بَاعَ الْعُرُوضَ فَهَلَكَتْ الْعُرُوض فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهَا؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ إنْ سَلَّمَهَا تَمَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَرَضُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ مِنْهُ يَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَهُوَ حَرَامٌ لِلنَّهْيِ وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بَلَغَنَا عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا لَا تَكُونُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ إنَّمَا تَكُونُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ