إنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ عَيْنَهَا، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْكَسَادِ، وَهِيَ مَقْدُورَةُ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ تَنَاوُلُهَا بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ وَبِالْكَسَادِ تَنْعَدِمُ الصِّفَةُ بِخِلَافِ انْقِطَاعِ الرُّطَبِ فَإِنَّهُ يَعُودُ غَالِبًا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَلَمْ يَكُنْ هَلَاكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ يَبْطُلْ وَفِي النُّحَاسِ وَأَمْثَالِهِ الْأَصْلُ هُوَ الْكَسَادُ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ.
فَإِذَا كَسَدَ رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ عَلَى وَجْهٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَعُودُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ قَلَّمَا يَزُولُ وَحَدُّ الْكَسَادِ أَنْ تَتْرُكَ الْمُعَامَلَةَ بِهَا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، فَإِنْ كَانَتْ تَرُوجُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لَكِنَّهُ يَتَعَيَّبُ إذَا لَمْ تَرُجْ فِي بَلَدِهِمْ فَيَتَخَيَّرُ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَتَهُ وَحَدُّ الِانْقِطَاعِ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي السُّوقِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي يَدِ الصَّيَارِفَةِ وَفِي الْبُيُوتِ قَالَ (وَصَحَّ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ)؛ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مَعْلُومَةٌ صَارَتْ ثَمَنًا بِالِاصْطِلَاحِ فَجَازَ بِهَا الْبَيْعُ وَوَجَبَ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، وَإِنْ عَيَّنَهَا لَا تَتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِتَعْيِينِهَا؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ قَدْرِ الْوَاجِبِ وَوَصْفِهِ كَمَا فِي الدَّرَاهِمِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِعَيْنِهَا.
فَلَا يَبْطُلُ الِاصْطِلَاحُ بِالْمُحْتَمَلِ مَا لَمْ يُصَرِّحَا بِإِبْطَالِهِ بِأَنْ يَقُولَا أَرَدْنَا بِهِ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهَا فَحِينَئِذٍ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ فَلْسًا بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا حَيْثُ يَتَعَيَّنُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَفَسَدَ الْبَيْعُ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةً تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ، وَهُنَا يَجُوزُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى إبْطَالِ اصْطِلَاحِ الْكَافَّةِ، وَهَذَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِهِمَا وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَتَعَيَّنُ، وَإِنْ صَرَّحَا بِهِ وَأَصْلُ الْخِلَافِ أَنَّ اصْطِلَاحَ الْعَامَّةِ لَا يَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا عَلَى خِلَافِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ فِي حَقِّهِمَا لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْغَيْرِ عَلَيْهِمَا فَلَا يَلْزَمُهُمَا.
قَالَ (وَبِالْكَاسِدَةِ لَا حَتَّى يُعَيِّنَهَا) أَيْ إذَا بَاعَ بِالْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ حَتَّى يُعَيِّنَهَا؛ لِأَنَّهَا سِلَعٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهَا قَالَ (وَلَوْ كَسَدَتْ أَفْلُسُ الْقَرْضِ يَجِبُ رَدُّ مِثْلِهَا)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهَا كَمَا قَبَضَهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ ثَمَنٌ، وَالْمَرْدُودَ لَيْسَ بِثَمَنٍ فَفَاتَتْ الْمُمَاثَلَةُ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ كَمَا لَوْ اسْتَقْرَضَ مِثْلِيًّا فَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الْكَسَادِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنْظَرُ فِي حَقِّ الْمُسْتَقْرِضِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ أَقَلُّ، وَكَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْبَيْعَ بِلَا ثَمَنٍ فَاسِدٌ لَا بَاطِلٌ إذْ الْفَسْخُ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْعَقْدِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْبَاطِلِ هَذَا مَا ظَهَرَ لِكَاتِبِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَعِبَارَةُ الْإِشَارَاتِ الَّتِي نَقَلْتهَا عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمَتْنِ كَسَدَ إلَخْ تُؤَيِّدُ مَا قُلْته اهـ.
(قَوْلُهُ: وَحَدُّ الْكَسَادِ إلَخْ) قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَتَفْسِيرُ الْكَسَادِ مَذْكُورٌ فِي الْبُيُوعِ أَنَّهَا لَا تَرُوجُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ ثُمَّ قَالَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَمَّا عِنْدَهُمَا الْكَسَادُ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ يَكْفِي فِي فَسَادِ الْبَيْعِ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ عِنْدَهُمَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ اصْطِلَاحِ بَعْضِ النَّاسِ وَعِنْدَهُ لَا لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ اصْطِلَاحَ الْكُلِّ وَقَالَ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ مَكَانَهُ نِكَاحٌ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَفِي الْعُيُونِ أَنَّ عَدَمَ الرَّوَاجِ إنَّمَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ إذَا كَانَ لَا يَرُوجُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ هَالِكًا وَيَبْقَى الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَرُوجُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَيَرُوجُ فِي غَيْرِهَا لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ وَلَكِنَّهُ تَعَيَّبَ فَكَانَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ قَالَ أَعْطِ مِثْلَ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ ذَلِكَ دَنَانِيرَ اهـ.
أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَصَحَّ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ) قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْفُلُوسُ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ شَرَطَ الْمُتَبَايِعَانِ أَعْيَانَهَا وَيَكُونُ مَا أَوْجَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يُجْبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ مَا شَرَطَ مِنْ الْعَيْنِ إنْ شَاءَ أَعْطَى الْعَيْنَ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى مِثْلَهَا وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَجْبُرَهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَيْهِ وَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَى الْبَائِعِ دُونَ الْمُشْتَرِي قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهَا فَصَارَتْ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَالْعَاقِدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ عَيْنَهَا وَإِنْ هَلَكَتْ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كَاسِدَةً لِأَنَّهَا مَبِيعَةٌ فَالْمَبِيعُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ اهـ.
أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ النَّافِقَةِ مَا نَصُّهُ النَّافِقَةُ الرَّائِجَةُ اهـ.
أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَلَوْ كَسَدَتْ إلَخْ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْكَسَادِ احْتِرَازًا عَنْ الرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ لِأَنَّ الْإِمَامَ الْإِسْبِيجَابِيَّ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْفُلُوسَ إذَا لَمْ تَكْسُدْ، وَلَكِنْ غَلَتْ قِيمَتُهَا أَوْ رَخُصَتْ فَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا قَبَضَ مِنْ الْعَدَدِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَإِذَا اسْتَقْرَضَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ بُخَارِيَّةً أَوْ طَبَرِيَّةً أَوْ يَزِيدِيَّةً أَوْ فُلُوسًا فِي الْحَالِ الَّتِي تُنْفَقُ فِيهَا ثُمَّ كَسَدَتْ فَإِنَّ بِشْرَ بْنَ الْوَلِيدِ قَالَ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قَالَ عَلَيْهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُهَا وَلَسْت أَرْوِي ذَلِكَ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ فِي الْفُلُوسِ إذَا أَقْرَضَهَا ثُمَّ كَسَدَتْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ لَمْ تَخْتَلِفْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَرْضِ الْفُلُوسِ إذَا كَسَدَتْ أَنَّ عَلَيْهِ مِثْلَهَا قَالَ بِشْرٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ يَوْمَ وَقَعَ الْقَرْضُ فِي الدَّرَاهِمِ الَّتِي ذَكَرْت لَك أَصْنَافَهَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا إذَا كَسَدَتْ فِي آخِرِ وَقْتِ نِفَاقِهَا قَبْلَ أَنْ تَكْسُدَ اهـ.
أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ أَفْلُسُ) وَالْفَلْسُ الَّذِي يُتَعَامَلُ بِهِ جَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ أَفْلُسُ وَفِي الْكَثْرَةِ فُلُوسٌ اهـ.
مِصْبَاحٌ (قَوْلُهُ، وَكَذَا فِي حَقِّ) أَيْ، وَكَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنْظَرُ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ أَيْضًا إلَخْ اهـ.