أَظْهَرَ الصَّوَابَ وَالْعَدْلَ فِي قَضَائِهِ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ بَاطِنُ أَمْرِهِ فِيهِ الْجَوْرُ وَالْحَيْفُ إلَّا مَا عُرِفَ مِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّ حُكْمَهُ فِيهِ صَوَابٌ، وَبَاطِنُ أَمْرِهِ كَانَ صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا، وَشَهِدَ بِذَلِكَ مَنْ عَرَفَ الْقَضِيَّةَ وَعَرَفَ كَيْفَ شَهِدَ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُ يَمْضِي وَلَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا رُدَّ وَقَدْ مَاتَتْ الْبَيِّنَةُ وَانْقَطَعَتْ الْحُجَّةُ كَانَ ذَلِكَ إبْطَالًا لِلْحَقِّ.

وَقَالَ لِي أَصْبَغُ فِي ذَلِكَ: هَكَذَا سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ وَأَصْحَابَنَا يَقُولُونَ، غَيْرَ أَنِّي أَرَى أَقْضِيَةَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَقُضَاةِ السُّوءِ جَائِزَةً مَا عَدَلَ فِيهِ مِنْهَا وَيُنْقَضُ مِنْهَا مَا تَبَيَّنَ فِيهِ جَوْرُهُ وَاسْتُرِيبَ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بِالْكَشْفِ، كَمَا يُصْنَعُ بِأَقْضِيَةِ الْجَاهِلِ، إلَّا أَنْ يُعْرَفَ الْقَاضِي بِالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ فِي أَحْكَامِهِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، فَتُرَدُّ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا مَا عُرِفَ بِالْجَوْرِ فِيهَا أَوْ جَهِلَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ أَصْبَغَ حَيْثُ يَقُولُ: وَتُنْبَذُ أَحْكَامُ الْجَائِرِ.

وَقَالَ أَصْبَغُ: هُوَ كَالْجَاهِلِ؛ لِأَنَّ أَصْبَغَ مُوَافِقٌ عَلَى نَبْذِ أَحْكَامِ الْجَاهِلِ، وَيُفْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقْضِيَةِ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَقُضَاةِ السُّوءِ، كَأَنَّهُمْ عِنْدَهُ أَخَفُّ مِنْهُ حَالًا؛ لِأَنَّ الْجَوْرَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَلَا مَعْرُوفٍ، وَلَوْ عُرِفَ لَكَانَ الْحُكْمُ وَاحِدًا.

وَحَكَى ابْنُ رَاشِدٍ فِي غَيْرِ الْعَدْلِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: فَسْخُ أَحْكَامِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُسْتَخْرَجَةِ، وَعَدَمُهُ مُطْلَقًا وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَقْضِيَةِ غَيْرِهِ. قِيلَ: فَإِنْ قَامَ عِنْدَهُ قَائِمٌ فَقَالَ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي قَدْ حَكَمَ فِيهِ بِجَوْرٍ بَيِّنٍ، قَالَ: أَرَى أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ حَكَمَ بِجَوْرٍ بَيِّنٍ وَوَجَدَهُ فِي الْقَضَاءِ مُفَسَّرًا مِثْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَقْضِيَ لِلْجَارِ بِالشُّفْعَةِ أَوْ بِالْمِيرَاثِ لِلْعَمَّةِ أَوْ لِلْخَالَةِ، فَأَرَى أَنْ يَفْسَخَهُ، وَأَمَّا إنْ وُجِدَ الْقَضَاءُ مُبْهَمًا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ الْجَوْرُ وَالْخَطَأُ الصُّرَاحُ مِثْلُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ شَهِدَتْ عِنْدِي بَيِّنَةٌ فَقَبِلْتهَا، وَرَأَيْت أَنَّ الْحَقَّ لِفُلَانٍ فَقَضَيْت لَهُ بِمَا تَبَيَّنَ لِي، فَلَا أَرَى لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ.

قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ: وَيُحْمَلُ الْقَضَاءُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْجَوْرُ، وَفِي التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ ضَرَرٌ بِالنَّاسِ وَوَهْنٌ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَخْلُو مِنْ أَعْدَاءٍ يَرْمُونَهُ بِالْجَوْرِ، فَإِذَا مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَامُوا يُرِيدُونَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ بِنَقْضِ أَحْكَامِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَمَا قَالُوهُ بَيِّنٌ إلَّا قَوْلَهُ شَهِدَتْ عِنْدِي بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَقَبِلْتهَا، فَفِيهِ نَظَرٌ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015