وَمِنْهُنَّ مَنْ تُسْقَى بِأَخْضَرَ آجِنٍ ... أُجَاجٍ وَلَوْلَا خَشْيَةُ اللَّهِ رَنَّتْ
فَتَفَرَّسَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا تَشْكُوهُ فَبَعَثَ إلَى زَوْجِهَا فَاسْتَنْكَهَهُ فَإِذَا هُوَ أَبْخَرُ الْفَمِ فَأَعْطَاهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَارِيَةً عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَفَعَلَ.
رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِالسُّوقِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ عُثْمَانُ قَالَ لَهُ: يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَيْنَا وَفِي عَيْنَيْهِ أَثَرُ الزِّنَا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فَإِنْ قُلْت: هَلْ الْقَافَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِكَوْنِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى الْحَدْسِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الشَّبَهِ وَهُوَ أَصْلٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ، وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْفِرَاسَةُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ.
وَقَدْ كَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّاشِيُّ الْمَالِكِيُّ بِبَغْدَادَ أَيَّامَ كُوفِيِّ الشَّامِيِّ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ، جَرْيًا عَلَى طَرِيقِ الْقَاضِي إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ إيَاسُ قَاضِيًا فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَهُ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ بِطَرِيقِ الْفِرَاسَةِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَكَانَ شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ صَنَّفَ جُزْءًا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، كَتَبَهُ لِي بِخَطِّهِ وَأُعْطِينَاهُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ مَدَارِكَ الْأَحْكَامِ مَعْلُومَةٌ شَرْعًا مُدْرَكَةٌ قَطْعًا، وَلَيْسَتْ الْفِرَاسَةُ مِنْهَا انْتَهَى.
وَالْحُكْمُ بِالْفِرَاسَةِ مِثْلُ الْحُكْمِ بِالظَّنِّ وَالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ، وَذَلِكَ فِسْقٌ وَجَوْرٌ مِنْ الْحَاكِمِ، وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ فِي مَحِلٍّ مَخْصُوصٍ لِلضَّرُورَةِ