لَعَلَّ معرفَة أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي عِنْد عُلَمَاء الْمُسلمين وَالْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين يلقِي ظلالًا موضوعية على قَضِيَّة هَذَا الْكتاب الَّذِي بَين أَيْدِينَا.
فَلَا خلاف فِي إِجْمَاع الْعلمَاء على اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي بعد كتاب الله تَعَالَى "الْقُرْآن الْكَرِيم" لَكِن السّنة لم تدون كلهَا فِي الْقرن الأول الهجري كَمَا أسلفنا، فقد فكر الْخَلِيفَة الثَّانِي عمر بن الْخطاب فِي تدوينها، وَلكنه بعد التروي والتشاور لم يقدم على ذَلِك لسببين فِيمَا نعتقد: لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا على اتِّبَاع مَنْهَج صَاحِبيهِ السالفين، فَأَبُو بكر لم يَفْعَله وَلَا أذن بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم؛ وَلِأَن الْحَاجة لم تكن قَائِمَة فِي ذَلِك الْوَقْت إِلَى التدوين؛ فالجيل الَّذِي كَانَ يحفظ السّنة شفاهة ويجسدها بسلوكه عملا لَا يزَال مَوْجُودا.
وَهَكَذَا لم ينفذ عمر رَضِي الله عَنهُ مَا فكر فِيهِ، وانقضى الْقرن الأول الهجري من غير أَن تدون السّنة عدا مَا رُوِيَ من أَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَت لَهُ صحيفَة اسْمهَا "الصادقة" دون فِيهَا الْأَحَادِيث الَّتِي سَمعهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ بِإِذن خَاص مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، فقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: "كنت أَكثر الصَّحَابَة حفظا لحَدِيث رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فقد كَانَ يكْتب وَلَا أكتب"1.