مَنْهَج الاستيثاق الَّذِي اعْتَمدهُ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي وَقت مبكر بعد أَن طوروه إِلَى الصُّورَة الَّتِي جعلت مِنْهُ خير مَنْهَج علمي موضوعي يُمكن أَن يتوافر عَلَيْهِ بشر، حَتَّى أننا لَا نعهد فِي التَّارِيخ العالمي نبيًّا أَو عَظِيما بُذِلَ فِي سَبِيل تَحْقِيق مَنْطُوق كَلَامه وَمَا رُوِيَ عَن أَحْوَاله وَسيرَته بشكل عَام مَا توفر للرسول الْخَاتم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَلَا غرابة فِي ذَلِك فَإِن من لَوَازِم الرسَالَة الخاتمة وصولها نصًّا سليما وبيانًا صَحِيحا كثمرة للْحِفْظ الرباني لهَذَا الدَّين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فقيض الله لَهُ من يدْفع عَنهُ الشّبَه ويجلي الْحَقِيقَة، وينقله بِسَنَد مُتَّصِل على هَذَا النَّحْو من السَّلامَة والدقة.
وَلَا شكّ أَن من نعم الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة أَن كَانَ ظُهُور الْفِتْنَة فِيهَا مترافقًا مَعَ وجود جيل الْأَصْحَاب -حفظَة الحَدِيث- الْمَشْهُود لَهُم من رَسُول الله، الْأَمر الَّذِي أدّى إِلَى تدوين وتوثيق السّنة بِحَيْثُ تحققت دَرَجَة صِحَة الحَدِيث وحجيته بِمَا لَا يدع مجالًا لشُبْهَة.
وَهَكَذَا لم يخْتَلف جُمْهُور عُلَمَاء الْأمة على وجوب الْأَخْذ بِالسنةِ وَالِاسْتِدْلَال بهَا عملا بقوله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وَلَا يعْتد بِرَأْي بَعضهم مِمَّن جنحت بِهِ الْأَهْوَاء وأضلته الْفِتَن.
اتجاه عُلَمَاء السّنة فِي عملية التدوين وَدفع الشّبَه:
وَقد اتجه عُلَمَاء السّنة فِي بنائهم لصرحها اتجاهين واضحين لَا يُغني أَحدهمَا عَن الآخر: الأول فِي تدوين السّنة الصَّحِيحَة بإسنادها، وَالثَّانِي دفع الشّبَه والأهواء الْبَاطِلَة وَبَيَان وَجه الْحَقِيقَة فِي ذَلِك.
وَيُمكن أَن يصنف هَذَا الْكتاب "تَأَول مُخْتَلف الحَدِيث" ضمن الْمَجْمُوعَة الثَّانِيَة فِي الدفاع عَن السّنة، ويتميز بِأَنَّهُ عرض الشّبَه الَّتِي أثيرت حول تنَاقض بعض الْأَحَادِيث فِيمَا بَينهَا، أَو معارضتها لآيَات فِي كتاب الله تَعَالَى، أَو خُرُوجهَا عَن منطق الْعقل ومبادئ الْفِكر الْمُتَعَارف عَلَيْهَا، أَو مخالفتها لمألوف النَّاس ومعروفهم، أَو لسنن الطبيعة وقوانينها العلمية. تِلْكَ