قبول الشطر الأول من هذا الرأي دون الشطر الأخير، وذلك على اعتبار أن الأنباط انشتروا في نفس المنطقة التى كان يسكنها قديمًا أهل مدين وكتبوا فيها بخطهم (في مثل مغاير شعيب والحوراء في شمال الحجاز). وعن هذا الخط الأنباطي أخذ عرب الحجاز ولكن ليس عن خط أهل مدين بالذات، ويسر ذلك لهم قربهم من المناطق الشمالية وتعاملهم معها في التجارة وما تتطلبه شئون التجارة من الكتابة. وكانت أهم مراكز الكتابة في مناطقهم هي مكة ويثرب. وقد ذكر البلاذري أنه لما ظهر الإسلام كان في قريش سبعة عشر رجلًا كلهم يكتب. وكانت الشفاء بنت عبد الله العدوية تحسن الكتابة. ولما دخل الإسلام يثرب كان من الأوس والخزرج عدة يكتبون.
تشابهت النصوص القديمة في شبه الجزيرة العربية مع نصوص الحضارات الأخرى في الشرق الأدنى وغيره في بعض أغراضها واختلفت عنها في بعض آخر. فتشابهت معها في اهتمامها بتسجيل أخبار الانتصارات الحربية، وإقامة المنشآت العامة والمشروعات العمرانية والدفاعية، وتسجيل الدعوات الدينية وألفاظ التعبد، والهبات المقدمة إلى المعابد، وتسجيل مراسيم الضرائب وبعض المعاملات الشخصية كالبيوع والمواريث، وتسجيل أسماء أصحاب المقابر ودعواتهم وتخصيصها لهم. ولكن هذه النصوص لا تزال تنقصها حتى الآن ما تضمنته نصوص الحضارات الكبيرة القديمة الأخرى من قصص وأساطير وعلوم وتعاليم مطولة، ولا تزال تنقصها كذلك المدونات التاريخية المنسقة التى تتحدث عن قصد عن أخبار الماضي وحوادثه وترتب أسماء حكامه وعهودهم تدوينًا مرتبًا متصلًا. وليس من اليسير أن نقرر ما إذا كان العرب التقدماء قد تجاوزوا عن الكتابة في هذه النواحي فعلًا، أم أنهم كتبوا عنها ولكن لازالت نصوصها خبيئة تنتظر كشف اللثام عنها، لا سيما وأن قلة قليلة من النصوص المطولة نسبيًا بدأت تلفت أنظار بعض الباحثين إلى احتمال صياغتها على هيئة السجع أو الرجز أو النشيد. ويقتضي هذا السياق أن نشير إلى حقيقة معروفة وهي أن نشأة الكتابة والنصوص المكتوبة لا ترتبط بنشأة اللغة المنطوقة أو بمدى النشاط الفكري عند أهلها. فليس من شك في أن كل الجماعات البشرية كانت لها لغاتها التى تتفاهم بها منذ أن بدأت تجمعاتها على سطح الأرض. وليس من شك كذلك في أن كل جماعة كانت تناقل عقائدها الدينية وأخبار أسلافها وأنسابها وآدابها وأساطيرها عن طرقيق الرواية قبل أن تعرف الكتابة بأزمان طويلة. ولعل في ثراء الشعر الجاهلي وثراء النثر معه ما يرجح دسامة الآداب العربية الشمالية القديمة التى لم تعرف طريقها إلى التدوين أو التى لم يعثر على مدوناتها الكبيرة حتى الآن.