وأظهر عرب الحيرة كفايتهم في قتال جيوش الروم وحلفائهم، وحدهم تارة وفي صفوف الفرس تارة أخرى. وكان أشد ملوكهم ضرابًا ونجاحًا المنذر الثالث 512 - 554م الذي نسبه المؤرخون المسلمون إلى أمه ولقبوه بلقب ابن ماء السماء، ورأى بعض الباحثين أن اسم ماء السماء هذا محرف عن اسم ماوية أو مارية، كما أطلقوا عليه لقب ذي القرنين ربما لأنه كان يرسل ضفيرتين على جانبي رأسه، أو لرغبتهم في تشبيهه بذي القرنين نظرًا لاتساع فتوحه مثله.
وتتابعت حروب المنذر على فترات منقطعة منذ عام 519 حتى عام 554م، أي خلال 35 عامًا، ونستطيع أن نتجاوز عن تفاصيلها لنذكر ما يروى من أنه استطاع في أوائلها أن يكتسح بادية الشام من حدود العراق إلى أنطاكية، الأمر الذي جعل قيصر الروم يوفد إليه رسله من القساوسة ليفاوضوه في إطلاق بعض من أسرهم من قادته الكبار أو يقنعوه بقبول الهدنة أو يغروه بالانقلاب على الفرس والانضمام إلى صفوفهم.
واتصلت أسباب المودة بين المنذر وبين ذي نواس الحميري كما أسلفنا في الفصل العاشر، وابتغى هذا الأخير أن يحالفه، ولكن تصادف أن وصلت رسالته في حضور قساوسة الروم عند المنذر ففسروها بأنها تحريض منه ضد نصارى الحيرة، وألبوا العالم المسيحي عليه. وعندما احتفل أبرهة الحبشى بانتهاء العمل في إصلاح سد مأرب أوفد المنذر إليه مندوبًا عنه لحضور حفله في عام 543م.
وهكذا خرج عرب الحيرة بشهرتهم عن نطاق الإقليمية والتبعية.
والواقع أنه لم يفسد على دولة الحيرة أمرها في عهد المنذر الثالث إلا عداؤها لفريقين من العرب وهم الغساسنة وبنو كندة. فقد كان كل منهم أدرى بحرب الآخر، وكل منهم يعرف عن أسرار الصحراء ودروبها ما يعرفه الآخر.
وكان على رأس بني غسان فيما يعاصر عهد المنذر، الحارث بن جبلة، ولم يكن أقل جرأة واقتدارًا منه، فاتصلت الحروب بينهما للأسف أكثر مما اتصلت بين الروم وبين الفرس، وعقد الروم والفرس أكثر من هدنة وصلح، ولكن المنذر والحارث لم يعترفا بهدنة أو صلح، وكما غزا المنذر أرض الشام غزا الحارث أرض الجزيرة في العراق، وهكذا أعمت المطامع بصيرة هذين الزعيمين. وانتهى الأمر بقتل المنذر حوالي عام 554م في موقعة حليمة أو موقعة الحيار قرب قنسرين كما سيرد تفصيله بعد قليل.
أما قبائل كندة فقد غدوا حينذاك قوة يخشى بأسها في قلب شبه الجزيرة العربية كما سنتناول ذلك بعد صفحات، فاستغل الفرس طموحهم لإضغاف شوكة ملك الحيرة بعد أن ارتفع شأنه، وتوقعوا أن يؤدي به طموحه إلى الإضرار